“الصراع السياسي في شبه الجزيرة العربية” لفريد هاليداي: فتِّش عن النفط وهاجس الهيمنة عليه
خالد غزال
احتلت الجزيرة العربية موقعا خاصا في العالم منذ اكثر من نصف قرن، بسبب الموقع الاستراتيجي الذي تشكله من حيث احتواؤها المخزون الاهم في النفط في العالم، ولكونها المصدر الاول لهذه المادة الاساسية التي تتحكم في كثير من مفاصل الاقتصاد العالمي. اذا كانت هذه المنطقة تشهد اليوم حراكا دوليا وصراعا على مواقع النفوذ فيها، الا ان احدا لم يعد يتذكر اليوم ان شبه الجزيرة العربية احتنضت حركات ثورية يسارية مارست اشكالا متعددة من العمل وصل بها الى اعلان ثورات مسلحة للاستيلاء على السلطة والامساك بموارد النفط واقامة انظمة اشتراكية في تلك المناطق. هذه الصفحات المنسية، سواء بحكم مرور الزمن أو بشكل متقصد، شكلت مادة كتاب “الصراع السياسي في شبه الجزيرة العربية” لمؤلفه البريطاني فريد هاليدي الذي عايش تلك الفترة ميدانيا وكان متعاطفا مع نشاط تلك الحركات. ترجم الكتاب محمد الرميحي واصدرته “دار الساقي”.
شكلت شبه الجزيرة العربية واحدة من المناطق القليلة في العالم التي قامت فيها انظمة الحكم وتركبت السلطات انطلاقا من هاجس اساسي: كيف تتم السيطرة على الموارد النفطية وكيف تجرى المحافظة على استمرار تدفق هذه الموارد. انحكمت النظرة الاستعمارية بمنع تركيب سلطات توحد بين القوى الاجتماعية وتسمح لاحقا بتكوّن قوى محلية تتوسل بالوطنية العامة سبيلا لاستقلال سيكون مطلبه الاول استعادة موارد النفط الى ابنائه. استفاد الاستعمار، ولا سيما البريطاني منه، من كون المنطقة خلال النصف الاول من القرن العشرين وما بعده بسنوات، بعيدة عن التطور السياسي ونهوض قوى استقلالية تطرح تصوراتها لطبيعة السلطة، إذ كانت تتحكم فيها مجموعات قبلية وعشائرية متصارعة على الموارد والسلطة. بنى الاستعمار على واقع تجزيئي في المنطقة، وركّب عليها انظمة تسمح له بالهيمنة وتمكنه من ادارة صراعات متتالية بين القوى المحلية بما يسمح ادامة سلطته، وذلك بعدما اعطى تلك القوى من فتات الثروات ما يجعلها اسيرة السلطة المهيمنة. هذا التركيب للسلطة لا يزال يتحكم في تطور المنطقة وبالصراعات الدائرة فيها، وإن اتخذ اشكالا متفاوتة بين بلد وآخر.
لكن التكوين العشائري والقبلي للسلطة وحجم التخلف الحضاري الذي كانت تقبع داخله، لم يمنع المنطقة من أن تشهد صراعا سياسيا وعسكريا ساخنا ونموا لقوى راديكالية ومشاريع سياسية طموحة جدا في سعيها الى التغيير السياسي والاجتماعي، وهي قوى تكونت وتأثرت بعاملين اساسيين. الاول، يتصل بصعود الحركة القومية العربية عبر المشروع الناصري ثم لاحقا مع سيطرة احزاب البعث في المشرق. والثاني، صعود اليسار الماركسي الجديد ذي النزعة الماوية والغيفارية الذي رفع شعارات ثورية ترجمها لاحقا بثورات مسلحة. اول الاختراقات الناصرية للمنطقة شبه المغلقة كان الانقلاب الناصري في اليمن والغاء الجمهورية، وهو انقلاب اجبر النظام الناصري على الدخول المسلح الى مناطق غير مألوفة وزج الجيش المصري في حرب استنزاف قبلية دفع الجيش فيها اثمانا باهظة. اما الوجه الاخر من الصراع فكان في اليمن الجنوبي وظفار، حيث شهدت المنطقة صعود اليسار المتطرف المستند الى مقولات اليسار الجديد الذي كان يعيش اعلى مراحل ازدهار مقولاته في العالم الثالث والدعوة الى تفجير بؤر ثورية تقضي على الاستعمار والامبريالية في كل مكان. استطاعت الحركة الثورية في اليمن الجنوبي ان تطرد الاستعمار البريطاني وتقيم سلطة “ثورية” في البلاد، فيما انتشرت ثورة ظفار في عمان واحتلت موقعا مهما في التطلعات الثورية الى امتداد الثورة الى مجمل مناطق الخليج. وقد شكل صعود الناصرية وسعيها الى الهيمنة على المنطقة ومعها مشاريع اليسار، مرحلة جديدة في الصراع المحلي والدولي على المنطقة.
على الصعيد المحلي، استشعرت الانظمة القائمة وخصوصا منها المملكة العربية السعودية أخطار “الفورات الثورية” على نظامها السياسي من جهة وعلى ثرواتها النفطية من جهة اخرى. واعتبرت ايران ان الخطر اياه يتهددها ويمس في الصميم جوهر السياسة الايرانية بقيادة الشاه آنذاك الذي كان يرى في منطقة الخليج المدى الحيوي لايران، في وقت كانت مطالبه صريحة في ضم اجزاء من هذه المنطقة الى ايران. لذا تشكل حلف موضوعي من اكبر قوتين محافظتين في المنطقة جمعتهما الأخطار المشتركة من هذا الحريق الناشب. في موازاة هذا الحلف كانت القوى الدولية المعنية بالنفط العربي تعمل على خطين، خط تكتيل القوى المناهضة للناصرية واليسار من خلال استثارة مصالح الجماعات التي نصبتها سلطات في اكثر من مكان، وخط العمل المباشر على اجهاض حركات التمرد في اكثر من مكان في شبه الجزيرة العربية. وهو صراع يفتقر الى التوازن في القوى، مما ستكون له نتائج كان القضاء على بؤر التطرف محصلتها الرئيسية.
شكلت هزيمة حزيران 1967 بداية الانحدار والنهاية في مسار الحركات الثورية وخصوصا في ميدانها الناصري. تحت وطأة الهزيمة اجبر عبد الناصر على تخفيف لهجة خطابه القومي وسلك سياسة براغماتية متوافقة مع الوضع المستجد، فتصالح مع النظام السعودي وسحب جيوشه من اليمن وقطع الدعم عن حركات معارضة كثيرة. ودخل النظام في اليمن الجنوبي في صراعاته القبلية على السلطة فانتهى به الأمر الى وحدة مع اليمن الشمالي بعدما استنزفته التصفيات المتبادلة بين اقطابه. اما ثورة ظفار فعرفت نهايتها عام 1970 بعد الانقلاب الذي شهدته سلطنة عمان وتدخل قوى اجنبية انهت هذا التمرد “غير الطبيعي” الهادف الى اقامة بؤرة ثورية في منطقة حساسة في العالم.
يشير هاليداي الى ما ترتب على هزائم المشاريع الثورية هذه، فيرى اولها في صعود المد الاسلامي الاصولي سواء في مذهبه السني الغالب، او من خلال الاثر الذي تركته الثورة الايرانية، وهو صعود لا يزال يعيش اعلى مراحل ازدهاره ويكاد يطبق على مجمل المنطقة. اما التطور الاخر الذي لا يقل خطورة عن المد الاصولي فهو سعي ما تبقى من الحركة القومية بقيادتها البعثية على قلب موازين القوى واقامة توحيد قسري في المنطقة، وهذا ما قام به النظام البعثي عبر غزوه الكويت عام 1990 والحاقها بالعراق، وهو حادث ترك آثارا مدمرة على المنطقة. نجم عن هذا الغزو حرب الخليج الاولى التي اعادت الاستعمار في وجهه العسكري الى المنطقة لحراسة آبار النفط ومنع اي تهديد لها سواء من القوى الداخلية أو من الخارج. هكذا دخلت منطقة الخليج في دوامة صراعات خطرة تناسلت منها حروب متعددة لن تكون آخرها ما جرى من احتلال للعراق عام 2003.
صحيح ان كتاب هاليداي يعطي حيزا محدودا للعقدين الاخيرين من الصراع، ويركز في المقابل على مراحل الستينات والسبعينات من القرن الماضي، الا ان تأريخه لتلك المرحلة يكتسب اهمية مضاعفة بسبب التطورات الراهنة المتفاعلة في المنطقة والمرشحة الى المزيد من الاخطار مستقبلا. يظل الكتاب مرجعا لقراءة تاريخ تلك المرحلة من داخلها وعبر مشاركين في صنعها.