ماذا يعني سقوط «الكنز الاستراتيجي لإسرائيل»؟
خالد الحروب *
«مبارك كنز استراتيجي لإسرائيل»، هذا ما قاله العام الماضي بنيامين بن أليعازر وزير الصناعة والتجارة الإسرائيلي في تصريح شهير يبدو الآن وكأنه كان بمثابة أحد المسامير الأولى في نعش النظام المصري المنهار. من وجهة نظر إسرائيل كانت مصر المُباركية تقوم بأدوار لا يمكن تقدير أهميتها الاستراتيجية. لا حاجة لإعادة قراءة التاريخ القريب والمعروف، لكن هناك الكثير مما يبرر وصف بن أليعازر لمبارك بـ «الكنز الاستراتيجي لإسرائيل». في عهد مبارك تم منح إسرائيل أكبر مساحة زمنية وجغرافية ممكنة من الأمن الاستراتيجي والاقتصادي. زال خطر الحرب الشاملة والتقليدية عن إسرائيل بينما تضاعف بالنسبة الى العرب. لم يتحقق السلام الموعود إلا بالنسبة إلى إسرائيل بينما تحققت سيناريوات حروب واعتداءات على كل الجوار العربي تقريباً: ضرب مفاعل تموز العراقي عام 1979، اجتياح لبنان عام 1982، القمع المتوحش للانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر الثمانينات واغتيال القيادات الفلسطينية في تونس في السنوات نفسها، قمع الانتفاضة الثانية عام 2000 فصاعداً، قصف المفاعل النووي السوري عام 2007، اجتياح غزة عام 2008، إلى اغتيال القيادي «الحماسي» في دبي في العام الماضي. هذا عدا عن حالات عربدة سرية واستخباراتية ربما لا تحصى استباحت فيها إسرائيل سيادات معظم الدول العربية، بما في ذلك مصر نفسها، عبر شبكات التجسس والتدخل الوقح في الشؤون الداخلية.
اقتصادياً قادت سنوات «الكنز الاستراتيجي» إلى انخفاض موازنة التسلح الإسرائيلي من حدود 30 في المئة من الناتج القومي الإسرائيلي إلى أقل من 10 في المئة، بما منح إسرائيل واقتصادها أكثر من ثلاثة عقود من النمو الاقتصادي والصعود إلى مستويات الدول المتقدمة. وكأن هذه الهبّة الاستراتيجية الاقتصادية لم تكن كافية فقام «الكنز الاستراتيجي» بتبرع مرعب على حساب ثروات مصر تمثل في صفقة غاز خيالية لم يكن يحلم بها أكثر الإسرائيليين طمعاً، إذ تدفق غاز مصر إلى إسرائيل بسعر بخس أقل من سعر التكلفة العالمية، موفراً على الاقتصاد الإسرائيلي وفق بعض التقديرات ما يقارب 10 بلايين دولار سنوياً (مقابل ذلك لنتذكر أنه تم رهن مصر كلها للمشيئة الأميركية مقابل أقل من بليوني دولار كمساعدة سنوية). واكتشفنا هذه الأيام فقط اللغز الذي حير الجميع إزاء صفقة الغاز السيئة الصيت تلك، إذ فضحت أوراق أمن الدولة السرية أن جمال وعلاء مبارك كانا يتقاضيان عمولات سنوية ضخمة من تلك الصفقة، والآخران اعتبرا أيضاً جزءاً من «الكنز الاستراتيجي». عملياً إذاً، اشتغلت المباركية كسياج واقٍ للدولة العبرية أتاح لها مساحات التمدد والتنفس والحركة بحرية ومن دون خوف من أية ارتدادات عربية فردية أو جماعية، لأن المباركية ستعمل على امتصاصها – كما شهدنا بوضوح بالغ في كل مراحل الحصار على غزة والحرب عليها.
الآن انتهى هذا التوزيع الاستراتيجي المخاتل حيث يتم توظيف أهم دولة عربية في الجوار الإسرائيلي لحماية إسرائيل عوضاً عن الوقوف في وجه سياساتها الاحتلالية والتوسعية. انهار السد الذي حمى إسرائيل من الارتدادات العربية الطبيعية والمتوقعة ضد أي سياسة مشابهة. والانعكاسات التي تستتبع هذا الانهيار عدة على رغم أنها لا تزال في كون التشكل، لكن من المفيد تأمل بعضها.
أول انعكاس يتمثل في انتهاء معادلة تعامل إسرائيل مع الديكتاتوريات العربية، بل والاعتماد عليها، على حساب وضد الرأي العام العربي. في العقود الأربعة الماضية شهدنا إسرائيل كدولة قائمة على الأحزاب والسياسة البرلمانية المرتكزة على الرأي العام الشعبي والانتخابي (اليهودي) تتعامل، حرباً أو سلماً، مع عدد من الأنظمة الديكتاتورية العربية التي لا تحفل بالرأي العام عندها. وانتهينا عملياً إلى معادلة سياسية بالغة الرثاثة والإهانة جوهرها الاهتمام المركزي، ليس فقط الإسرائيلي بل والعالمي، بتوجهات الرأي العام الإسرائيلي بكونها تؤثر في قرارات أي حكومة إسرائيلية، مقابل الاهمال والازدراء التام للرأي العام العربي، المصري والأردني المجاور، ثم ما يليهما، كونه عديم الفاعلية في قرارات أي من الأنظمة القائمة. ويكفي أن نتذكر هنا المثال الطازج في مسألة تجميد الاستيطان واحتماء نتانياهو بالرأي العام في جمهور ناخبيه اليمينيين الذين يمكن أن يسقطوا حكومته، وكيف «تفهم» العالم كله تبريراته. في كل مرحلة من المراحل كان الرأي العام الإسرائيلي عاملاً مهماً ومركزياً، ولم تكن هناك أهمية تُعتبر للرأي العام العربي. والسبب في ذلك أن «الكنز الاستراتيجي» في مصر و «الكنوز الاستراتيجية» الأخرى كانت ولا تزال تقرر في الشأن العام بديكتاتورية مطلقة ومن دون أي اهتمام بما تراه شعوبها وما تريده.
الانعكاس الثاني سيتمثل في تشدد الخيارات العربية الفردية والجماعية تجاه إسرائيل. الفسحة الزمنية والاستراتيجية الطويلة الأمد التي تمكنت خلالها إسرائيل من فرض رؤيتها وتحديد العناصر الأساسية في التعامل معها إقليمياً انتهت الآن. ليس معنى هذا أن الخيارات العربية ستتحول إلى الساحة العسكرية والحروب مع إسرائيل، لكن على وجه شبه مؤكد ستنتهي معادلات التفهم والتواطؤ الضمني في ضوء الانكشافات المتواصلة التي تتعرض لها السياسات الرسمية في المنطقة. لن يكون بإمكان أي حكومة أو منظمة أن تقوم بما كانت تقوم به قبل عهد الثورات بمطلق الحرية ومن دون أخذ بالحسبان الرأي العام الخاص بها. ومن الجائز أن نتوقع حتى في المدى القصير، وعلى سبيل المثال، سياسة مصرية تجاه إسرائيل شبيهة بالسياسة التركية التي أحرجت كل الرسميات العربية بهذه الدرجة أو تلك.
الانعكاس الثالث يتمثل في سقوط الخرافة الإسرائيلية في تصوير وتسويق إسرائيل بكونها الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، والتي اشتغلت عليها الدعاية الصهيونية في العقود الماضية ونجحت إلى حد كبير. عندما كانت تُساق أمثلة لبنان وتركيا بكونهما ديموقراطيتين شرق أوسطيتين تكسران حصرية ذلك الوصف عن إسرائيل، كان المتحدث يلقى قليلاً من الإنصات، ذلك أن المقولات القاطعة والحصرية أوقع على السمع وأكثر جاذبية. هذا كله على رغم أن ديموقراطيتي لبنان وتركيا، على ما فيهما من اختلالات كبيرة، كانتا دوماً أعلى درجة من تلك الإسرائيلية بسبب قيام الأخيرة على الاحتلال العسكري شعباً آخر، وعنصريتها القانونية والمثبتة ضد خمس سكانها. الثورتان المصرية والتونسية كسرتا صورة ذلك الاحتكار إلى غير رجعة مع ما حطمتاه من مقولات وتنميطات استشراقية عدة تحوم حول عدم ملاءمة الديموقراطية والحرية للعرب والعالم العربي. ومن الطبيعي أن نتوقع أن انكسار هذا الاحتكار سيضعف مكانة إسرائيل في العالم وفي الغرب تحديداً وكل ادعاءاتها في هذا المجال.
الانعكاس الرابع، وليس الأخير، مرتبط بما سبقه ارتباطاً وثيقاً ويتمحور حول السؤال شبه الوجودي الذي يواجه إسرائيل الآن، ويطرحه سياسيون ومفكرون إسرائيليون كثر، ومفاده هل وجود إسرائيل مشروط بوجود ديكتاتوريات عربية، بحيث تعمل تلك الديكتاتوريات كحاجز حماية بين إسرائيل والشعوب العربية بعامة؟ مرة أخرى ما شهده تاريخ المنطقة في نصف القرن الماضي في ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي ومآلاته الراهنة يشير في ما يشير إليه إلى تلك الخلاصة. وهي أن العلاقة بين «عملية السلام» والديموقراطية في المنطقة العربية علاقة معقدة، بما يعني التضحية بالثانية إن أريد للأولى أن تتمخض عنها معاهدات سلام مع الدول العربية. وفي الوقت الذي كانت تمر فيه تلك المعاهدات، مثلاً مع مصر والأردن، على الكنيست الإسرائيلي ليوافق عليها، فإن أية آلية مشابهة في الجانب العربي كانت دائماً غائبة، وغيابها مطلوباً أيضاً. وينطبق ذلك على العلاقات الاقتصادية والمكاتب التجارية التي فتحت في بعض العواصم العربية والعلاقات الرسمية وافتتاح سفارة في موريتانيا. كل ذلك كان يتم وفق معادلة المحافظة على نظام إقليمي عام حجر الزاوية فيه الاستبداد الذي يفرض على الرأي العام أي سياسة أو توجه أو سلام أو غيره مع إسرائيل. نعلم أيضاً أن معظم العلاقات مع إسرائيل، سياسييها وتجارها، كان يقع في جوهر عملية مقايضة معقدة مع الولايات المتحدة، أو بالأحرى رشوة هذه الأخيرة من طريق التقرب من إسرائيل، لأن الطريق إلى واشنطن يمر بتل ابيب، وبهدف تحقيق أهداف أو دعم لهذا النظام أو ذاك. ليس ثمة زعم بأن الانعكاسات المذكورة أعلاه كاملة أو حصرية، بل هي ما تتيحه هذه المساحة.
* محاضر وأكاديمي – جامعة كامبردج، بريطانيا
الحياة