بكم نرفع رؤوسنا
الياس خوري
مشهد رئيس الحكومة المصرية الجديد عصام شرف في ميدان التحرير، لم يرفع رؤوس المصريين فقط، بل رفع رؤوس كل العرب بمصر وشعبها وثورتها. لقد نجح ثوار ميدان التحرير في فرض توازن جديد في مبنى السلطة الجديدة التي تتشكّل في مصر. التوازن بين الاستمرارية التي يمثلها الجيش والتغيير الذي يمثله ميدان التحرير، مال في شكل واضح لمصلحة الميدان. فالحقائق الجديدة بدأت تتشكل، والوعي السياسي والتنظيمي آخذ في التبلور، ومؤسسات نظام الاستبداد تتداعى واحدة خلف الأخرى، وخصوصاً جهاز امن الدولة، الذي شكّل بؤرة القمع والبلطجة.
هذا التوازن الجديد بين الميدان ومؤسسات الدولة، وعلى رأسها الجيش، هو الذي سيحمي المؤسسات ويعيد اليها اعتبارها، مخرجا البلاد من تحكم غيلان النهب والسمسرة والقمع.
اعلنت ثورة شباب مصر نهاية شرعية الانقلاب العسكري في شكل لا التباس فيه. النظام العسكري بدأ سقوطه في الخامس من حزيران 1967، وتهاوى في المرحلة الساداتية المشؤومة، لكنه استمر بالعنف والقهر ثلاثين عاما. وانتج مجموعة من المهرجين الصغار، الذين لم يتبنوا من الناصرية سوى وجهها القمعي، وتحولوا كتلة من الكوابيس التي حولت العالم العربي الى مسرح للهستيريا المستمرة.
المسرح العربي يبدو مفتوحاً على كل الاحتمالات، لكن ما يجب تسجيله هو ان القرن الجديد بدأ في العالم العربي عام 2011. تأخر العرب عشرة اعوام عن البداية، لكن بدايتهم كانت مدهشة ومفاجئة.
ان علامات البداية، ماثلة اليوم في الأفق، وهي تتلخص في كلمة واحدة اسمها استعادة الكرامة الانسانية والحق في الحياة. كل المسائل السياسية الأخرى مهما كبرت تأتي بعد هذه القضية.
لذا يبدو المشهد المصري، والنموذج الذي قدمته ميادين التحرير اساسياً. بين تونس التي لم تسقط رأس النظام الديكتاتوري فقط، بل اجبرت حكومة الاستمرار الموروثة من بن علي على السقوط، والقاهرة التي اسقطت احمد شفيق وبقايا نظام مبارك في الشارع، يرتسم الأفق العربي الجديد، الذي سيمتد الى كل مكان.
لا تصدّقوا كذبة ان اي ديكتاتور يستطيع ان يصمد في وجه العاصفة الشعبية العارمة. لا السعودية التي تمنع التظاهر بحجة انه مخالف للشريعة! ولا سورية، التي تلاحق شباب المدونين وتحاكم المعارضين. السين- السين التي احتمى في ظلها النظام الطائفي اللبناني هي ايضاً لن تكون قادرة على صدّ رياح التغيير، وعلى ابقاء الشعب اسير الأصفاد.
المسألة الجوهرية هي ان شرعية الديكتاتوريات انتهت. لا اليمن يستطيع الاستمرار على النهج القديم ولا البحرين ولا الجزائر او الاردن. حتى فلسطين المحاصرة بالوحش الاسرائيلي من جهة وبالانقسام الداخلي الأحمق من جهة ثانية، لن تكون في منأى عن ضرورة التغيير واحتمالاته.
اما لبنان الذي يفترسه الوحش الطائفي، فسيجد طريقه ايضاً، رغم انقسامات زمن ما قبل الثورة الديموقراطية العربية، وضدها، وفي سبيل مجتمع مدني سياسي متحرر من عنصرية الطائفية والطائفيين.
الدم البريء الذي يريقه الديكتاتور الليبي على ارض بلاده، هو العلامة الأخيرة لترنح الديكتاتور. وبمقدار ما كانت سلطة القذافي حجابا يغطي عورات النظم الديكتاتورية بمزيج التهريج والمال، بمقدار ما كشف سقوطه عن احدى اكبر الفضائح في عالمنا المعاصر.
القذافي فضيحة اخلاقية عربية اولا، لكنه ايضا فضيحة امريكية واوروبية وافريقية. لحظة ترنحه اصيب الديكتاتور بالمفاجأة من عدم وفاء حلفائه. لم يكتف القذافي ببيع ثروات بلاده للامريكيين والاوروبيين من اجل ان يبقى، بل باعهم كل شيء. اشتغل دليلا عندهم، وحاميا لشواطئهم، وعبدا على صورة رجل يمثل دور الملك… لكن الفضيحة ليست هنا فقط، الفضيحة انه اشتراهم بالمال، واكتشف ان لكل واحد سعرا، من الجامعات الى الشخصيات السياسية، الى ابن ملكة الانكليز. كلهم، حتى فوكوياما زار العقيد واجرى معه مناقشات فلسفية، قارنا فيها بين بؤسين، بؤس نهاية التاريخ وبؤس الكتاب الأخضر. امير الظلام ريتشارد بيرل ذهب ايضاً، واقتنع من القذافي، ربما، ان الديكتاتورية هي اعلى مراحل الديموقراطية، وان تصدير الديموقراطية الى العالم العربي يكون عن طريق ملك ملوك افريقيا!
الفضائح لا تزال في بداياتها، حسني مبارك الذي باع الغاز المصري لاسرائيل بأسعار تشجيعية! كان يشتري بقاءه في السلطة، وكان الامريكيون الذين اطلقوا كذبة حرب الحضارات، مرتاحين اليه، لأنه باستبداده الوحشي يحمي الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، اي يحمي اسرائيل.
هذه الفضائح التي اجبرت ساركوزي على احداث تعديل وزاري بعد فضيحة وزيرة خارجيته مع الديكتاتور التونسي، تعطي الثورة الديموقراطية مناعة ضد التدجين.
نرفع رؤوسنا بالثورتين المصرية والتونسية، ونتماهى مع الثوار الليبيين، لأن الثورة الديموقراطية تعلن نهاية شبح الهيمنة بكل اشكالها. هيمنة الغرب وتفوقه الكاذب، وهيمنة الفكر الماضوي وتحجره المخيف، وهيمنة اب الأمة الذي يفترس ابناءه ويلقي بهم الى التهلكة.
نرفع رؤوسنا بكم ونبدأ.
معكم تبدأ النهضة العربية الثالثة.
القدس العربي