من وحي ثورة الشعب الليبي: الصادق النيهوم مفكّر المستقبل
عبدالباسط سيدا
الصادق النيهوم اسم استوقفني وأنا أتصفح بهجة المعرفة قبل عقدين من الزمن أو ما يزيد. فهو الذي أشرف على تحرير وإصدار تلك الموسوعة المعرفية القيمة إلى جانب موسوعات أخرى مثل: تاريخنا، وموسوعة الشباب، وأطلس الرحلات؛ وما دفعني إلى ذلك هو أنني كنت قد قرأت قبل ذلك مقالات نوعية عدة لهذا الباحث الليبي الجاد (1937-1995) في مجلة الناقد، ووجدت فيها فكراً مبدعاً متمرداً على المألوف المتعارف عليه.
غادرت ليبيا إلى الشمال الاسكندينافي في أواخر 1994؛ وانقطعت صلتي الفكرية بالصادق النيهوم، إذ بقيت بهجة المعرفة إلى جانب كتبه الأخرى في الوطن؛ ولم تترك ظروف الغربة القاسية أي مجال أمامي لمتابعة الغوص في عالم النيهوم؛ لكن اسمه ظل محفوراً في الذاكرة يفرض احترامه من موقع الهم البحثي المستمر الذي تميّز به صاحبه.
وبعد انقطاع عن ليبيا دام أكثر من أربعة عشر عاماً، سنحت لي قبل سنتين فرصة القيام بزيارة خاصة برفقة صديق عزيز إلي البلد الذي أحببت؛ زرنا خلالها المعالم الأثرية والسياحية خاصة في لبدة وصبراتة؛ والتقينا بالعديد من الأصدقاء. زرنا طرابلس وبنغازي ومنطقة الجبل الأخضر مدينة مدينة: المرج، البيضاء، شحات، درنة، سوسة، رأس هلال…
لكن الأبرز الأهم بالنسبة لي هو تمكني من الحصول على بعض من مؤلفات الصادق النيهوم، وهي مؤلفات ستكون من دون شك محوراً مفصلياً لأبحاث مستقبلية، نظراً لما تحتويه من تحليلات ومعالجات جريئة نادرة، يحترمها المرء بصرف النظر عن اتفاقه أو اختلافه معها؛هذا إلى جانب كونها تبين بجلاء أن صاحبها يتسم بقدرة غير عادية على استشفاف أبعاد المستقبل.
الفكرة الأساسية التي يقوم عليها مؤلف الصادق النيهوم: الإسلام في الأسر: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟ – وهو الذي نركز عليه هنا- تتمثل في دعوة صاحبه إلى ضرورة استعادة الأمة لوعيها الجماعي؛ هذا الوعي الذي تمكنت المؤسسة السياسية في العالم العربي من إلغائه عبر بعثرته بين الأفراد، شرط أن يظل كل فرد مجرد عالم قائم بذاته، يفتقر إلى الوشائج التي تتيح له عملية التواصل والتفاهم مع الآخرين. فالعرب قد خسروا – وفق ما يذهب إليه النيهوم قبل نحو ربع قرن- مناخ الحوار الحر، “وخسروا معه عقلهم الجماعي، وورطوا أنفسهم في ثقافة فردية لا تعاني من غياب المواطنين الأذكياء، بل تعاني من غياب وسيلة التفاهم بينهم في مجتمع شبه أخرس، له صفات القطيع، لا يتكلم لغة مشتركة، و لا يمتلك قراراً جماعياً، و لا تجمعه إرادة أصلاً سوى إرادة الراعي وعصاه” الإسلام في الأسر. طبعة جديدة، بنغازي 2006، ص 170.
و”الأمة التي تفقد عقلها الجماعي، لا تملك فكراً، بل تملك لغة فقط، وأن هذه الظاهرة بالذات، هي الصفة المألوفة لحالة الجنون المألوف، رغم أن المريض، شخصياً، يكون – طبعاً- آخر من يعلم أن كثرة الكلام مجرد دليل على قلة معناه” المصدر نفسه، ص 171.
وفي غياب الوعي الجماعي، يغدو الحاكم المتسلط “قائداً شعبياً” وقوانين الملك الماجن تصبح “مراسم شريفة” وعصابات القتلة، تصبح “قوات وطنية”، والحزب الطائفي يصبح “حزب الله” والمرأة السجينة تصبح “سيدة مصون”، والفقيه الجاهل “عالماً في الدين”، والإدارة البوليسية “حكومة رشيدة”، وقطع رؤوس المواطنين “عملاً بالسنة المحمدية”، والحكم العائلي المنقرض “تطبيقاً لأحكام الشريعة الخالدة”. المصدر نفسه، ص 174.
والأمة “التي تخسر عقلها الجماعي، تخسر بالتالي سلاح الجماعة، وتتحلل إلى ملايين من الأفراد العزل، الذين يحلمون بالتغيير دائماً، ويطالبون به أحياناً، لكنهم لا يستطيعون أن يفرضوه، وهي محنة لا تخفيها أدوات الماكياج، ولا يخفف من عواقبها الرهيبة أن يجتمع “المفكرون” في مؤتمر بعد مؤتمر، وندوة بعد ندوة، لكي يتبادلوا التهاني والنظريات الملفقة، إن خلاص الناس في اجتماع الناس أنفسهم.
وفي أجواء كهذه تغدو الكلمة حجراً “مهمته أن يشج رأس الخصم، أو – على الأقل- أن يدفعه إلى الفرار. فالناقد الذي يرفض حاضر العرب، اسمه “معول هدّام”. والذي يرفض عزل المرأة، اسمه “زنديق متأثر بثقافة الغرب”. والذي يرفض الحكم الوراثي، اسمه “عميل مأجور”. والذي يرفض سلطة رجال الدين، اسمه “عدو الله”. والذي يرفض شريعة القوة، اسمه “متخاذل جبان”. والذي يرفض تزييف الواقع، اسمه “دجال غير واقعي”. كل كلمة تعض وتعقر.” المصدر نفسه، ص 175.
والرد الأمثل على كل هذا وغيره يتجسد في ضرورة امتلاك الوعي الجماعي، وهذا لن يتحقق من دون التواصل، لذلك يرى النيهوم أن خلاص العرب هو “في اجتماع الملايين الذين يلتقون أسبوعيا في الجوامع.” المصدر نفسه، ص 176.
واللافت للنظر فيما كتبه النيهوم حول هذا الموضوع هو تركيزه على ضرورة العودة إلى مفهوم الجامع عوضاً عن المسجد؛ فالأخير مكان يختلي فيه المسلم مع الله، وهو مدرسة “لتلقين علوم الدين.” الصادق النيهوم: صوت الناس: محنة ثقافة مزوّرة. طبعة جديدة، بنغازي 2006، ص 38.
في حين أن الجامع هو الميدان الذي يلتقي فيه المرء مع الناس في مؤتمر إداري له سلطة أعلى من سلطة الدولة، ينعقد دورياً، في مواعيد محددة، غير قابلة للإلغاء أو التأجيل.” المصدر نفسه، ص 38.
خلاص العرب إذاً – وفق منظور النيهوم- “هو في يوم الجمعة، عندما تسترد الملايين وعيها المغُيّب، ويستعيد هذا اليوم هويته السياسية الضائعة، فيتحرر من خطب الوعظ، ويصبح لقاء رسمياً على مستوى الأمة، يجمعها في مكان واحد، ووقت واحد، تحت شعار جماعي واحد لكي يطلقها كالإعصار في مسيرة الغضب الصاعقة، إذ ذاك يبطل مفعول السحر، ويخرج المارد من القمقم.” الصادق النيهوم: الإسلام في الأسر. المعطيات نفسها، ص 176.
إن قراءة تحليلات ومقاربات الصادق النيهوم هذه – وقد مضى على كتابتها أكثر من ربع قرن كما أسلفنا- في ضوء الثورات التاريخية التي تشهدها معظم الدول العربية راهناً؛ تبين أن صاحبها كان قد تمكن من تشخيص الأزمة البنيوية العميقة المهيمنة في المجتمعات العربية، نتيجة تمكّن أنظمة الاستبداد فيها من أسر الدولة والمجتمع معاً. كما أن الرجل استطاع – استنادا إلى خلفيته المعرفية ، دكتوراه وباحث في الأديان المقارنة، فضلاً عن إتقانه للغات عدة منها: الألمانية والانكليزية والفرنسية والفنلندية- تحديد المطلوب الذي لا بد منه، بغية الخروج من دائرة الاستبداد اللعينة. الحل يتشخص بالنسبة إليه في تفعيل دور الجامع على صعيد التواصل بما ويخدم الحاجات المجتمعية في مختلف الميادين وعلى كافة المستويات.
ومنعاً لأي التباس، لا بد من التوضيح أن النيهوم لا يُطالب بالدولة الدينية؛ كما أنه لا يرفع الشعار المعروف: الإسلام هو الحل؛ وإنما يدعو إلى ضرورة العمل من أجل أن يستعيد الجامع دوره الفاعل، حتى يتمكن من تحقيق الجمع بين الناس، تمهيداً للتفاهم وتوحيد المواقف في مواجهة الاستبداد. ولعل ما رأيناه في تونس ومصر؛ وما نراه حالياً في ليبيا خلال أيام الجمعة من تصاعد لافت في المواقف الشعبية المناهضة لسلطات القمع، يبين إلى حدٍ كبير مدى أهمية ما دعا إليه النيهوم، وظل يردده من دون كلل أو ملل إلى يوم رحيله.
إنها دعوة إلى تحرير الإسلام من الأسر المزدوج: أسره من قبل حكومات الاستبداد من جهة، وأسره من قبل جماعات التطرف من جهة أخرى. وهو الأمر الذي أكده أيضاً محمد أركون من جانبه باستمرار. للمزيد راجع على سبيل المثال محمد أركون: نحو نقد العقل الإسلامي. ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت- لبنان 2009.
وانسجاماً مع التوجه النيهومي هذا – إذا جاز لنا التعبير- نرى أن مفهوم الجامع يمكن توسيعه في عصرنا الراهن ليس على المستوى المفهوي الاصطلاحي فحسب، وإنما على الصعيد المكاني والوظيفي الأدائي أيضاً. فكل ما يحقق التواصل بين الناس، ويساعدهم على التفاهم وتوحيد المواقف، يُعد جامعاً طالما أنه يؤدي دوراً ايجابياً في ميدان مقارعة الاستبداد، وتمكين الشعوب من بلوغ حريتها وكرامتها. ومن هنا نرى أن شبكات التواصل الاجتماعي الموجودة على الانترنيت راهناً، وتلك المستقبلية القادمة، وميادين التحرير في مختلف المدن والبلدان؛ ولقاءات التفاهم بين سائر المكوّنات والشرائح المجتمعية، هي كلها جوامع تمتلك مقدرة هائلة على التنظيم والتعبئة والأداء المبدع الفاعل في مواجهة جهود التمزيق، وقيم التفسخ والأنانية، وسياسة الإفساد الشمولي،وهي جميعها أسلحة مؤسسة الاستبداد الأخطر في إطار سعيها من أجل سحق الشعوب، وإرغامها على قبول الخنوع والذل.
لقد عرفت الشعوب الطريق والأسلوب، وذلك بفعل تمكنها من استعادة جانب من وعيها الجماعي. والمهمة الملحة الآن تتجسد في ضرورة العمل من أجل استعادة كل هذا الوعي، خاصة بين أوساط الشباب الذين من أجلهم ومن أجل أبنائهم يُبذل كل هذا الجهد، ليتمكنوا من تنسم عبق ربيع الحرية والكرامة والمستقبل الزاهر، وذلك بعد عقود من الظلم والظلامية تحمّلها الشعب وقاومها، ولم يفقد الأمل البتة.
التحدي الأكبر بالنسبة إلى المجتمعات العربية، ومجتمعات شرقنا المعذب عامة، في حاضرنا هذا، وبالنسبة إلى المجتمع السوري على وجه التخصيص – باعتبارنا من أبنائه- هو أن يتواصل أفراده المبدعون من مختلف المكوّنات معاً، ويتفاعلوا في الوقت ذاته مع المجتمع، حتى تتحوّل معارضة الأغلبية الصامتة إلى قدرة ثورية خلاّقة، تزلزل أركان الاستبداد بأسمائه وألوانه المختلفة، وتفتح الطريق واسعاً أمام الشعب لتكون كلمته فوق الجميع واقعاً وفعلاً ،لا زورا وبهتاناً.
الحوار المتمدن