أهم معوقات التدخل الغربي أن القذافي يتمنّاه
عبدالوهاب بدرخان *
لا ينفك معمر القذافي يقول: أنا أو الفوضى… أنا أو «القاعدة»… أنا أو لا نفط… أنا أو لا استثمارات بمئتي بليون دولار. فيما يقول ابنه النجيب سيف الإسلام: والدي أو ليبيا صومال المتوسط… والدي أو الأرض المحروقة.
الواقع أن الأب والابن يتحدثان عن خطة مرسومة مسبقاً، كما لو كانا يقرآن في كتاب، قوامها أن نهاية هذا النظام يجب أن تعني بالضرورة نهاية البلد، وإحدى أهم الوسائل تخويف الغرب و «إفهامه» أن مصلحته توجد في باب العزيزية، وليس في أي مكان آخر في ليبيا.
لأجل ذلك كان لا بد من استدعاء الإعلاميين الأجانب وتكثيف المقابلات معهم لينقلوا الرسائل التي ينبغي أن يتبلغها الغرب ويعمل في ضوئها. فهي رد مفصل على ما وصف بأنه عقوبات دولية للنظام لا تزال في بدايتها، وقد بدا القذافي في معظم ظهوراته الإعلامية غير عابئ بتحقيقات الانتربول أو المحكمة الجنائية الدولية، ولا بتجميد الأرصدة في الخارج، ولا خصوصاً بمنع سفر المسؤولين الليبيين.
لعل أحد تعبيراته، النادرة بصدقها، قوله إنه يشعر بـ «خيبة أمل» بل بـ «خيانة» له من جانب الغرب الأميركي والأوروبي. إذ يبدو انه كان اطمأن في الأعوام الأخيرة الى أن كمّ الرشى التي نثرها هنا وهنا: وكمّ الصفقات التي عقدها، جعلته مقبولاً ونظّفت سمعة نظامه وضربت الصفح والنسيان على عقود من الممارسات الدموية والدونكيشوتيات السياسية والفكرية التي كانت تغذي إعجابه بنفسه ولا تحظى إلا بإطراءات المنتفعين منه.
كل العواصم التي ظن أنه فتحها أو أخضعها، بعدما اشترى ساساتها، تدعوه اليوم الى الرحيل والتنحي. وهو لا يزال يعتقد أن بقاءه خير للجميع. فالتنحي ليس خياراً لأنه على ما يقول لا يتولى أي منصب، والرحيل ليس خياراً لأنه يريد القتال حتى آخر رجل وامرأة. لكن البقاء في السلطة لم يعد خياراً متاحاً أيضاً، على رغم انه استخدم ما يتقنه من الإنكليزية ليقول بلهجة وصوت يذكران بالملاكم روكي بالبوا: انهم يحيوني، كلهم يحبوني، الشعب يحبني ويريد القتال من أجلي… لكن مشكلته انه لا يحب أياً منهم، بل لا يحب بلده.
منذ السبت الماضي بدأت طائرات العقيد تدك تجمعات الذين «يحبونه» في الزاوية ومصراته وبن جواد وبريقه. إذ انه يسعى الى حماية سرت، مسقط رأسه، ويأمل أيضاً في توسيع جغرافي لدائرة نفوذه، لكنه يريد خصوصاً إبقاء منشآت النفط تحت سيطرته، فبعدما فقد الزاوية وراس لانوف لم يعد لديه أي ميناء نفطي. ومع إدخال السلاح الجوي الى المواجهة، يريد الإيحاء أيضاً بأن الأمر لا يعدو كونه تمرداً داخلياً من المفترض والمنطقي أن يتعامل معه النظام بكل ما يملك من وسائل.
عند هذا المنعطف الخطير، في نهاية الأسبوع الثالث للثورة الشعبية، طرحت مسألة التدخل الخارجي نفسها بشدة وإلحاح. فهناك مجازر وقعت لتوها، لكن المجزرة آتية، وما على المجتمع الدولي سوى أن يقرر. هل كان يقبل براوندا جديدة حين جلس يتفرج على مذبحة رهيبة أو دسها بعشرات الآلاف في الصراع المفتوح بين «التوتسي» و «الهوتو»، أم يذهب الى نسخة أخرى من «حرب كوسوفو» حيث كانت المذبحة قد بدأت على أرض أوروبية وحثت التحالف الغربي على التحرك؟
لم تبدُ الإجابة متيسرة، لا في البيت الأبيض ولا في الأليزيه ولا في 10 داونينغ ستريت، الأميركيون يعكفون على درس الخطط. الفرنسيون أجروا اتصالاً بالمجلس الوطني الانتقالي الذي شكله الثوار الليبيون. الإنكليز أرسلوا موفداً ديبلوماسياً مرفقاً بمجموعة من غوريلات القوات الخاصة المدججة بالسلاح، وهبطت طائرتهم فجأة بلا مقدمات في مكان قريب من بنغازي، ظنها مقاتلو الثورة طلائع مرتزقة جدد للقذافي، وما أريد له أن يكون اتصالاً أولياً مباشراً مع الثوار بدا حماقة مبكرة للديبلوماسية البريطانية العريقة. لكن السؤال بقي محفوراً على الطاولة: نتدخل، لكن كيف؟
الأولوية لإخراج سلاح الجو من المعركة، ولأجل ذلك استخرجت فكرة إقامة منطقة حظر جوي تشمل الأراضي الليبية. كان هذا الحظر فرض على منطقة كردستان العراق بُعَيد انتهاء «عاصفة الصحراء» أو حرب الخليج الثانية عندما انتفض الأكراد وطردوا أجهزة دولة صدام حسين من مناطقهم، أي تقريباً كما حصل في مناطق الشرق الليبية. لكن وزير الدفاع الأميركي اعترض لأن هذه العملية تتطلب أولاً قراراً دولياً، وثانياً نشراً لمعدات لوجستية وقوات مساندة نظراً الى احتمال حصول مواجهات أو هجمات مضادة. لكن المجلس الانتقالي الليبي لا يزال يلح على هذا المطلب الحيوي. وكان الأميركيون والأوروبيون طلبوا، على سبيل الاختبار والاحتياط، أن تبدي الجامعة العربية – مثلاً – موقفاً في هذا الشأن، فأيد وزراء الخارجية الحظر الجوي، على رغم تحفظ سورية والجزائر والسودان. وطلب أيضاً موقف مماثل من الاتحاد الأفريقي ومنظمة المؤتمر الإسلامي. لكن العقدة توجد في مجلس الأمن حيث لم يكن الإجماع مضموناً، وبالأخص على مستوى الدول الخمس الكبرى. ولا يعني رفض هذه الدولة أو تلك تعاطفاً مع القذافي، وإنما خشية هذه الدول المتحفظة من تكريس قاعدة في العمل الدولي قد تستخدم ضدّها في المستقبل.
من الواضح أن تجربتي العراق وأفغانستان جعلتا الحديث عن أي تدخل دولي، خصوصاً إذا كانت هناك أزمة تغيير نظام، جمرة يريد الجميع تجنبها. لذلك لم يرد أبداً، ولا حتى في الأذهان، احتمال إنزال قوات على الأرض الليبية، على رغم أن سيناريوات الفوضى المحتملة توجب التفكير بإمدادات النفط المرشحة للتوقف إذا طالت الأزمة وتحولت حرب استنزاف لا يمكن التكهن بنهايتها. الفارق مع العراق أن الشعب في ليبيا انتفض وتمكن خلال أيام قليلة من إنجاز ما لم يكن أحد يتصوره، ومع اتضاح أن نظام القذافي انعطب وإن كان لا يزال خطيراً وقادراً على الإيذاء فإن القوى الخارجية تمكنت من استشفاف معادلة توازنٍ داخلي ما تسمح لها بأن تختار ليس فقط الوقوف مع الثوار وإنما البحث في دعمهم وتسليحهم ليتمكنوا من الصمود ومن التخطيط لإسقاط القذافي بالقوة.
في مختلف العواصم الغربية استرجعت الدوائر الديبلوماسية الأسبوع الماضي شريط الأعوام العشرة الماضية، واستنتجت أن الأمر يتطلب في هذه اللحظة التاريخية المهمة شيئاً من التمترس الصادق وراء «المبادئ». صحيح أنه يمكن إنقاذ النظام، لكن ماذا عن كل الوقت والحبر والكلام التي استهلكت لتحسيس الأنظمة والشعوب بضرورة تصويب أوضاعها. صحيح أن هناك قبولاً ظاهرياً لإمكان التدخل، لكن العرب والمسلمين سيشهرون الغضب ما أن تطأ قدم أول جندي أجنبي أرض ليبيا، وهذا ما يسعى إليه القذافي ليقول انه يقاتل الاستعمار مثله مثل عمر المختار. لذلك يستحسن أن يساهم الغرب في ما يخدم الشعب الليبي، فالمهم أولاً الخلاص من القذافي لكن قبل ذلك لا بد من منعه من ارتكاب حملة إبادة انتقامية ومن التعرض لمنشآت النفط، فالمصالح ستأتي في سياق المشاركة في التغيير وليس في امتطائه أو محاولة توجيهه.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة