السعودية: هل خيارنا الديكتاتور او الاقتتال؟
د. مضاوي الرشيد
عندما تهتز مضاجع الملوك في قصورهم وتراودهم كوابيس الليل المظلمة خوفا من الذين وصفهم عبد الرحمن الكواكبي باولئك الذين اذا جهلوا خافوا واذا خافوا استسلموا كما انهم هم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا. نجدهم يلجأون الى الارهاب الفكري في محاولة بائسة لتأجيل المواجهة.
من علامات هذا الارهاب الذي تمارسه القيادة السعودية اولا: تصوير المجتمع وكأنه شعب متسول لا يريد الا توفير حاجاته المادية من مأكل وملبس وتكاثر حيث تنفي خطابات المسؤولين ووعود الملك لحظة عودته الى البلاد بحزمة كبيرة من الاتاوات تقدر بملايين الدولارات عن هذا الشعب صفة التطلع الى اصلاحات سياسية جوهرية عبرت عنها نخبة من اطياف المجتمع في بيانين اولهما خطاب دولة الحقوق والمؤسسات وخطاب ثاني تحت عنوان اعلان وطني للاصلاح. وفي هذه الخطابات بالاضافة الى بنود اقتصادية بحتة حزمة من المطالب السياسية لن ترى النور الا اذا انتزعت انتزاعا من صاحب القرار.
ونعتقد ان الموقعين يعلمون علم اليقين ان خطابهم هو بالدرجة الاولى موجه للمجتمع وليس للملوك لانهم ليسوا بالاغبياء ويعرفون تماما ان الحقوق ليست مكارم ملكية حيث هم نخبة متعلمة لها باع طويل في التاريخ والسياسة والفكر. يظل النظام من خلال ابواقه المعروفة والمبتذلة ينفي عن المجتمع صفة المطالبة بحقوق سياسية ويعتبر ان الضجة لا تعدو سوى محاولة حديثة للتسول والشحاذة من خزينة الدولة. فلا مانع ان يسخر جزء من هذا الفائض والذي فضحت ويكيلكس اين تذهب حصة الاسد منه مؤخرا لتسيير حاجة المواطن المعيشية. فبينما يصرخ المصري والتونسي والبحريني والليبي مطالبا بحقوق سياسية يتلعثم السعودي مطالبا بلقمة العيش. يذكر هذا بمظاهرات الخمسينات التي نظمها المناضل الشهيد ناصر السعيد عندما كان يقود المظاهرات العمالية في ارامكو بعد ان حصلت زيادة في اسعار الطعام المعروض للعمال بقيمة ربع ريال. واجه ناصر السعيد معارضة من العمال والذين اجمعوا بصوت واحد انهم لا يخرجون للتجمهر تحت شعار المطلوب منه ان يضغط على شركة ارامكو لتخفيض اسعار الوجبات المخصصة للعمال. فقالوا له ان شعب الجزيرة لا يخرج احتجاجا على قلة المادة او الجوع بل هو يخرج للمطالبة بحقوق سياسية وتحت شعار سياسي صرف. خمسون عاما واكثر مضت على تلك الحركة العمالية التي رفضت ان تخرج لتطالب بكسرة خبز تسد رمق العمال لانها كانت شريحة ابية ما زالت مرتبطة بثقافة الكرامة والعزة والاباء. اما اليوم فكل مطالب شعب الجزيرة حسب المنظومة السعودية هي مطالب مأكل وملبس ونكاح وخزينة الدولة في عصر الثورات العربية هي المفتاح السحري الذي سيخمد الثورة قبل ان تندلع شرارتها الاولى. فلا مساجين سياسيون ولا معاناة من تكميم الافواه ولا سجن تعسفي لمجرد التفكير بالتغيير السياسي يخرجنا الى الشوارع لاننا كتل لحمية تستهلك لتشبع غرائزها المرتبطة بالجسد. هكذا يريدنا النظام السعودي كتلا بشرية تنتفخ كروشها حتى تصيبها التخمة وتنشر ذريتها في الداخل والخارج وتطرب على الحان واغان تسبح بحمد السلطان وترتل تراتيل الخنوع والجبرية والقدرية وتستهلك في اسواق الدولة ما تستهلكه حتى تهلك. وقد اصبحنا في معايير الامم امة ينطبق عليها شعار جديد وهو شعار الشعب المتسول بامتياز. وان بقينا نتطلع الى تغيير سياسي حقيقي فيلجأ النظام الى استراتيجيته الثانية وهي التلويح بالصراع القبلي والطائفي والمناطقي الذي يؤدي الى تفكك الاوطان وتمزيق المجتمعات. وتوفر الآلة الاعلامية السعودية حيزا كبيرا للتهويل وبث الرعب من خلال استعراض تجارب اخواننا العرب فتبحث عن الحروب الاهلية والاقتتال الطائفي في مصر خلال ثورتها ولكن الشعب المصري ركلها في وجهها واثبت انه اكبر بكثير من منظومتها الفاشلة واتجه الاعلام السعودي الى ليبيا مشرحا قبائلها ومناطقها عله يجد بصيص نور لحرب قبلية ولكن لم يجد ولن يجد. ولن يتعلم المجتمع السعودي دروسا من ثورات الجيران الا ذلك الدرس الذي يركز على الوحدة الوطنية والاخوة الدينية، وان وجدت طائفية فهي صنيعة النظام السعودي بالدرجة الاولى لانه هو من حشد فتاوى الكراهية ومارس الاقصاء وجند الاكثرية وتلاعب بالاقلية ‘يوم لك ويوم عليك’ اما القبلية فنعم نحن قبائل ولن نستطيع يوما ما في المستقبل القريب ان نمحي قبائلنا من الوجود حيث ان الاسلام بتاريخه ورسالته لم يستطع ان يقلل من شأنها ويحد من سطوتها ولكن هناك فرقا بين القبلية كانتماء والقبلية كمنظومة سياسية تؤججها الدولة ورجالاتها. النظام السعودي لا يتعامل مع المواطن كفرد وانسان بل يتعامل معه كجزء من مجموعة قبلية تقيم حسب ولائها للنظام فتأتي القبيلة كلها لتصطف امام ولي امرها تستجدي الحقوق وتغرد اهازيج الخنوع والولاء ولا يقبل النظام ان يتعامل مع الافراد كمواطنين فهو يصر على كون هذا الفرد جزءا من مجموعة يخضع لسلطة شيخ يعينه هو ويصبح شيخ القرية والعشيرة وسيطا بين الدولة والقبيلة يضمن ولاءها ويحج بها الى العاصمة كقطيع من الغنم يحشده مطأطئ الرأس راكعا امام جبروت السلطان في بهو قصره العتيد. ومنهم من يجند في افواج مسلحة تماما كما تجند المرتزقة ليلعبوا الدور المطلوب منهم ساعة الحسم. فالسعودية الدولة الوحيدة التي طورت مفهوم الميليشيا القبلية على حساب جيش وطني يكون ملاذا ساعة الازمة. ووضعت على رأس هذه الافواج العتيدة اما امراء حرب من داخل الاسرة او من خارج القبيلة ما عدا اولئك الذين اثبتوا عمالتهم وولاءهم للنظام منذ عقود طويلة. لن يرعبنا الاقتتال القبلي الذي تتوقعه السعودية اذ ان شبابنا اليوم قد فهم اللعبة القديمة وسيثبت انه ارفع من نظام الفرقة والتفرقة الذي مارسه علينا هذا النظام.
وثالثا سيلجأ النظام الى المنظومة المستهلكة الا وهي اتهام دعاة التغيير بالعمالة للخارج كطابور خامس فمنهم أذناب صفوية تأتمر بأوامر طهران ومنهم من يأتمر بأوامر الغرب الكافر خاصة اولئك الذين يزورون السفارات ومنهم من هو عميل لانظمة عربية مجاورة تتربص بنا وبثرواتنا. لقد تجاوز العصر هذه التراتيل المبتذلة وان كان هناك عميل واحد اثبت ولاءه وركوعه للخارج فالنظام خير مثيل لتلك العمالة التاريخية التي انتقلت من مرحلة استلام المصروف الشهري الى مرحلة جديدة مع بداية الحقبة النفطية حيث نضخ نفطنا يوميا ونبذر اموال خزينتنا على مشاريع حقيقية ووهمية لا تصب الا في مصلحة اقتصاد الغير. فعن اي عمالة خارجية يتحدث النظام ان كان هو منغمسا في العمالة السياسية والاقتصادية حتى اخمص قدميه؟
في عصر الثورات العربية وويكيلكس المعلومات اصبح من السهل جدا فضح العميل الحقيقي في عصر العمالة العربية المتجهة الى مزبلة التاريخ حتى تطوى صفحة العمالة الى الابد وتستبدل بعلاقات خارجية وسياسية تقوم على المساواة وتبادل المصالح وليس التبعية بمنظومتها الامبريالية القديمة او الاقتصادية الجديدة. ورابعا هناك الملاذ الاخير الذي سيتفضل به علينا طاقم التكفير الذي يتهم المطالب بحقوق سياسية بطريقة سلمية بالخروج على الحاكم. وهنا يجب ان نفتخر اننا كلنا خوارج جدد يخرجون بالكلمة والاعتصام لا كالخوارج القدماء الذين خرجوا من معاقل النظام السعودي يكفرون هذا ويقتلون ذاك ويحرقون الارض وزرعها ويروعون القرى وأهلها ومن ثم يتفاجأون ان وجدوا مصاحف في مساجدها. الخوارج الجدد يتسلحون بخطاب جديد هو خطاب الحقوق المدنية والسياسية والشورى والعدل والعدالة الاجتماعية وليس خطاب التكفير او الخطاب الآخر المتهم بانه خطاب تغريبي كالديمقراطية وحقوق الانسان. لن يستطيع النظام السعودي بعد اليوم ان يخلط الامور ويشتت العقول الكل اصبح يعرف من هم الخوارج الحقيقيون ولماذا وجدوا واي هدف اصابوا واي مصلحة خدموا ومن اي خزينة مولوا. ولماذا قتلوا وسجنوا بعد ان قوي ساعدهم وشكلوا خطرا على الحاضنة المدللة والمرضعة الوفية. يجب على النظام السعودي ان يتجاوز خطوطا دفاعية وهمية وان يغير طاقم العلاقات العامة الحالي بآخر اكثر حنكة وبلاغة لن يستطيع ان يقلب الموازين الجديدة ويعيق مسيرة التغيير السياسي. قد ينجح في تأجيلها او استقطابها او قطع مسيرتها في المستقبل القريب الا انه في المستقبل البعيد سيظل يسبح ضد التيار ولن تقف طوابير التسول صامتة الى الابد خاصة وان القيادة حتى هذه اللحظة لم تستطع ان تحسم موضوع حكومة منتهية الصلاحية ناهيك عن رؤساء دولة يتفاوضون على تقسيم الحصص قبل ان يفعل ملك الموت فعلته فيخطف من يخطف قبل اكتمال عقد الشراكة وتوزيع اسهم الدولة في سوق وصل الى الحضيض حسب النشرات الاقتصادية الحالية. الامل كبير ان يفوت الشباب ونخبة مشروع التضليل ويثبت ان شعب الجزيرة العربية لم يكن يوما ما شعبا متسولا في سوق كبير والخيار ليس بين الديكتاتورية او الاقتتال الداخلي بل هو بين العيش على هامش الامم وفي مؤخرتها او العيش في طليعة هذه الامم وفي مقدمتها. وسيظهر الامر جليا يوم الحسم القادم والذي سيغير ليس فقط الداخل السعودي بل تاريخ وحاضر ومستقبل العالم العربي بدون رجعة.
‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
القدس العربي