ترويض القول الحر أو اغتياله.. الرهاب السياسي في كردستان العراق
هوشنك الوزيري
يعتبر الرُهاب من القول، تحديداً النقدي منه والذي يتميز بشكية مشاكسة صادمة، بما يمثله من طرح لرأي مغاير واقتراح لفكر مختلف، أولى خطوات النظام السياسي نحو وحدانية الحكم ومحاولات الانفراد بالسلطة بكافة فضاءاتها. ويتم الاستيلاء على الفضاءات العامة والخاصة من خلال إدّعاءات البنية الآيديولوجية للنظام السياسي بامتلاكها «الحقيقة» بشمولية ألف لامها المطلق. لذلك فإن أي افساح في المجال لقول آخر، والذي ربما قد يحمل في ثناياه احتمال طرح حقيقة جديدة ما، يعني في أحد أبعاده الاعتراف نوعاً ما بعدم احتواء «حقيقة» ذلك النظام الآيديولوجي لكافة معاني الواقع بشكله الشمولي التام. وهنا تبدأ الخلخلة في نظام الواقع الراكد وتنطلق الصدامات بين حقائقه المتحركة المتغيرة وحقيقة النظام الآيديولوجي الوحيدة الثابتة. وهذا تحديداً ما ينبذه نوع كهذا من النظام السلطوي الذي يجهد دوما في الاستيلاء على «حقيقة» وتسويقها على انها أم الحقائق كلها، وعلى انها الوحيدة التي تمثل بشموليتها الواقع بكلية مستوياته المتعرجة.
ومثل الأنظمة الثيوقراطية، التي لا تتوانى في صرامتها القاسية عن ملاحقة كل قول لا ينسجم أو يطابق مع فضائه النصي الثابت، تبدأ الآيديولوجيات الكليانية والقوى السياسية الشمولية، ولحظة فرض ذاتها المتضخمة على الفضاء المجتمعي بعملية تأسيس لحقائقها الخاصة. كما وتجهد تزامناً مع عملية التأسيس هذه، في تحصين وإغلاق نظامها الفكري والأخلاقي برفض ونبذ، ومن ثم ملاحقة ومطاردة، كل حقيقة دخيلة غير مألوفة وغريبة عن (حقائقها) المصوغة مسبقاً والسائدة في شوارع المدينة. فإن أي عملية انفتاح في فضاء القول تثبت فكرة في غاية البداهة والبساطة، وفي غاية الرعب بالنسبة لهذه القوى، وهي قدرة الواقع الانساني عبر صيرورته المستمرة على انتاج حقائق متغيرة جديدة. وهنا تحديداً يكمن فوبيا الأنظمة السياسية التي تصبو نحو الكليانية، أقصد فوبيا إنتاج حقائق جديدة.
فهل تخاف السلطة الكردية، أو الحزب الكردي اذا ما أردنا ان نكون أكثر دقة في صياغة الفكرة، في إقليم كردستان العراق من الانفتاح على القول الحر؟
الواحة الديموقراطية
يبدو ان الفضاء السياسي الكردي ماض في لحظته الراهنة في هذا الاتجاه، الرهاب من عملية القول خشية تهشيم ثبات الحقيقة الواحدة التي تدّعي عدم وجود شريك آخر لها في عالم الحقائق. وسؤال الرُهاب السلطوي الكردي يصبح ضرورةً لا يمكن الصمت عنه خصوصاً بعد انتقال عدوى الاحتجاجات الشعبية العربية الى إقليم كردستان العراق، حتى قبل انتقالها الى دول عربية معينة. ولم تتورع السلطات الكردية عن اتباع آليات عنف الأنظمة العربية الدكتاتورية في تعاملها مع الغضب الكردي، ابتداءً من إرسال قوات خاصة تابعة لأهل وعشيرة ومنطقة الرئيس (قوات زيرفان) الى موقع الاضطرابات وصولاً الى استخدام الذخيرة الحية بقصد القتل، مع الاصرار على الانتقام من الإعلام المستقل الذي تمثل في التشديد على مؤسسات اعلامية والاعتداء على صحافيين واعتقال بعض منهم. والظاهرة الأخيرة لا تبين إلا مدى فزع السلطة/ الحزب الكردي من القول المغاير. وهنا تبدأ الخطوة الكردية الأولى نحو بناء نظام سياسي شمولي.
وربما كان هذا الرُهاب حاضراً حتى أثناء مرحلة النضال الثوري المسلح في الجبال قبل مجيء الاحزاب الكردية الى الحكم في اقليم كردستان العراق في بداية التسعينيات. لكنه بالتأكيد أنفجر معلناً عن نفسه بوضوح صارخ من خلال مقتل الصحافي والطالب الجامعي الكردي العراقي سردشت عثمان الذي كان يبلغ من العمر 23 عاماً أثناء العثور على جثته في إحدى ضواحي مدينة الموصل الشمالية في السادس من أيار من عام 2010. فقد كتب عثمان مقاله «جرس موتي يقرع أولى دقاته» الذي يقول فيه «اتمنى ان يمنحوني موتاً مأساوياً يليق بحياتي» متناولاً تهديدات القتل الكثيرة التي تلقاها عبر هاتفه المحمول وبريده الالكتروني عقب نشره مقالاً نقدياً لاذعاً ضد هيمنة عائلة وعشيرة رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني الذي ورث قيادة الحزب الديموقراطي الكردستاني، وهو الحزب الحاكم الاكثر نفوذاً وقوةً، عن أخيه ادريس البارزاني الذي قتل في 1987 والذي كان هو الآخر قد ورثه عن أبيه ملا مصطفى البارزاني بعد موته في 1979.
وكان مقال عثمان المثير للجدل «أنا أعشق أبنة البارزاني» الذي نشره في 13 كانون الأول 2009 ينتقد بطريقة لاذعة في سخريتها، الفساد المستشري داخل الإقليم الكردي، بالاضافة الى سيطرة عائلة البارزاني على مفاصل السلطة ومواردها. ويبدي عثمان رغبته في الزواج من أبنة « ذلك الرجل الذي يظهر بين فينة وأخرى قائلاً أنا رئيسكم. لكنني أرغب في ان يكون حماي» لكي ينتقل من فرد ينتمي الى «عائلة فقيرة من سكنة أربيل العاصمة» الى واحد ينتمي الى «عائلة البارزاني» التي تملك السلطة والمال.
لكن يبدو ان اختراق المحرم الاجتماعي، حتى لو تم فعل الخرق على مستوى القول فقط، أقسى بكثير من اختراق التابو السياسي في الفضاء السياسي الكردي الذي يتحالف فيه المقدس الديني مع القيم العشائرية ليتحول في نهاية الأمر الى مطلق سياسي لا يمكن المساس به. فبعد يومين فقط من اختطافه في وضح النهار من أمام كلية اللغات في جامعة صلاح الدين في أربيل العاصمة تم العثور على جثة عثمان في مدينة الموصل.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اعتقال أو اختطاف واغتيال صحافيين وكتاب في كردستان العراق التي اعتبرها أحد قادتها ذات مرة «واحة ديموقراطية في صحراء الديكتاتوريات». فقد قتل الصحافي سوران مامه حمه عام 2008 من أمام منزله في مدينة كركوك بعد نشره مقالات وتحقيقات قاسية ضد الفساد السياسي والاداري المستشري في كردستان، كما وتم تلقين الكثير من صحافيين آخرين دروساً في (آداب الكلام وأخلاق القول) عبر الضرب والتعذيب والإهانة والإذلال وأساليب أخرى برعت السلطات الكردية في استيرادها من «صحراء» الديكتاتوريات التي تحاصرهم من الجهات الاربع.
تتعرض هذه «الواحة الديموقراطية»، التي بدأت بالتشكل في بداية التسعينيات بعد انسحاب مؤسسات دولة صدام حسين من المحافظات الكردية، التي لطالما تباهى بها سياسيون أكراد، تتعرض الآن الى عملية تصحر دكتاتوري وخصوصاً فيما يتعلق بحرية الصحافة – وإن كانت تعيش حالة من عدم الانتظام – وحرية القول المختلف الذي يحاول بناء قراءة نقدية للسياسات الكردية، وتحديداً الداخلية منها. فما يحدث الآن بين حين وآخر من رفع دعاوى واستدعاءات ومن ثم محاكمات وإصدار احكام بالسجون بحق محررين وصحافيين وكتاب، ومن ثم فجأة الإعلان عن التنازل عن كل هذه الدعاوى بهدف الظهور بمظهر النظام القادر الصارم ولكن الرحيم الشفيع أيضاً، كل هذا يدعو الى القلق، وخصوصاً اذا ما أخذنا بالاعتبار بان أغلبية هذه الدعاوى يتم رفعها من قبل مسؤولين كبار في الحزب الديموقراطي الكردستاني، وهوالحزب الحاكم في الإقليم.
فالفضاء السياسي السلطوي الكردي ينزع في لحظته الراهنة، التي تمثل بدايات خطيرة، لمحاولة تقديس أقوال السلطة متمثلة في خطابات رئيسها، ينزع نحو وحدانية القرار والاستفراد بالحقيقة، والهيمنة ليس على القرار السياسي فحسب بل محاولة مد الأذرع حتى داخل الفضاء الاجتماعي أيضا، وذلك عبر تضييق الخناق على كل مساحة قولية تنتجها العملية الثقافية في مقابل توسيع وتضخيم مقولتها الآيديولوجية. وهذا تحديداً ما يجب محاربته. فما يحدث من تصادمات قاسية تدور رحاها الآن بين عملية القول، باعتبارها انتاج رأي وفكرة، أو ما درجت تسميته في الاعلام بحريات التعبير، وبين الفضاء السياسي السلطوي في إقليم كردستان العراق، ينذر بمخاطر احتمال انزلاق المشهد الكردي برمته وتحديداً السياسي منه، نحو محاولات خلق فضاء اجتما – سياسي يهيمن عليه الصمت عبر إثارة الخوف من التفوه بالقول/ اوكتابة الرأي ومواجهة المثقف بالمسدس. وفي حالة الكردي لن يكون كاتماً، بل سيكون مسدساً في غاية الوقاحة عبر الاعلان عن ذاته في وضح النهار وأمام مرأى الجميع كما حدث في قضية سردشت عثمان. وأولى خطوات عملية التضييق على الرأي تبدأ بإرهابه، ومن ثم اغتياله اذا وجبت الضرورة.
(كاتب عراقي)
السفير