التفاوض السوري الإسرائيلي

تأثير معاهدة سلام سورية – إسرائيلية على لبنان

null المعاهدة ناضجة… “التفاهمات” غير ناضجة I قد لا يؤدي توقيع معاهدة سلام سورية – اسرائيلية الى ولادة شرق أوسط سلمي جديد، لكن بالتأكيد فإن الشرق الاوسط الذي نعرفه لن يبقى على حاله بعد هذا التوقيع. “الشرق الاوسط الجديد” تتأكد جدته عندما ينتهي الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، جوهر الموضوع في الصراع العربي – الاسرائيلي. إنما توقيع سوريا لمعاهدة سلام مع اسرائيل سيغير حتماً وجه الصراع العربي – الاسرائيلي ووجهته. التوقيع يعني خروج سوريا ومعها لبنان من هذا الصراع. بكلام آخر سيكون ذلك آخر تغيير على “الجغرافيا” العربية المحيطة باسرائيل لدولتين معاً: سوريا ولبنان. الاخير بالمعنى الواضح للكلمة: لبنان المستمر حتى اليوم في هذا الصراع عبر “حزب الله”. هكذا سيتغير وجه الصراع العربي – الاسرائيلي، أو من المفترض أن يتغير هذا الوجه. أما الوجهة، فإن نمط الصراع سيكون قد انتهى بين اسرائيل والدول القائمة على حدودها. وهي مصر والاردن وسوريا (ولبنان). من هذه الزاوية سيبقى الموضوع الفلسطيني، الذي لا يمثل دولة قائمة في المواجهة، بمقدار ما سيمثل دولة “مستقبلية” ستقوم عبر السلام. لا معنى للسلام إذا لم تقم “الدولة” من الزاوية الفلسطينية، ولا معنى لقيام “الدولة” اذا لم يحصل السلام من الزاوية الاسرائيلية. II هذا في الاطار الرؤيوي العام للسلام السوري – الاسرائيلي. فماذا عن المفاوضات بين سوريا واسرائيل، مباشرة وغير مباشرة، بالارتباط مع هذا الإطار وبالانطلاق من الواقع القائم. ثلاث ملاحظات اساسية هنا تتعلق بـ”الاطار” و”الواقع”: -1 التسوية السورية – الاسرائيلية لم يعد “مسارها” في عهد الرئيس بشار الاسد كما كان في عهد والده الرئيس حافظ الاسد. الفارق الجوهري انه في عهد الاسد الأب كانت “معاهدة السلام” بين سوريا واسرائيل ببنودها الامنية والديبلوماسية والاقتصادية والمائية هي كل السلام السوري – الاسرائيلي. كانت المعاهدة هي “الحدث” يومها كنص يُحدِث التحول بذاته: الانسحاب الاسرائيلي مقابل قبول الاسد الأب بالتطبيع السوري. كان التحدي يكمن لدى الفريقين في مدى رغبة المؤسسة الامنية – السياسية في اسرائيل بإعادة الجولان لصاحبته الاصلية، وفي سوريا مدى قدرة “النظام” على فرض شرعيته ما بعد السلام حيال المجتمع السوري… وبالتالي الرأي العام العربي(•) . الآن، لم تعد المعاهدة، أي النص المفترض أن يوقَّع للعلاقات السلمية بين الدولتين، هي المشكلة. بل يمكن القول، وهذا ما بات يعرفه الكثير من المراقبين الجديين، ان نص المعاهدة جاهز للتوقيع حين يصدر القرار السياسي. المشكلة الآن في المفاوضات السورية الاسرائيلية تكمن في الظروف الجديدة للمنطقة، خارج “المعاهدة” لا داخلها إذا جاز التعبير. وهو جائز. -2 المفاوضات من المفترض أن تدور، مباشرة أو غير مباشرة، على موقع سوريا في النظام الدولي، وبالتالي في النظام الاقليمي العربي، من زاوية ما يريده “النظام السوري”. أمن النظام، موقف “النظام العالمي” منه بقيادة الولايات المتحدة الاميركية، أي بقاؤه. أما استعادة الجولان فأمر بديهي في سياق كهذا، لأن هذه الاستعادة هي الحد الادنى للتماهي بين الدولة السورية والمصالح الوطنية للكيان السوري. من الزاوية الاسرائيلية، فإن مقدرة النظام السوري على إنهاء المشروع العسكري الايراني – السوري في جنوب لبنان الذي يجسده “حزب الله” هو الموضوع الاساس، أو بات هو الموضوع الاساس. مصير العلاقة السورية مع “حماس” مطروح طبعاً. انها علاقة تتجاوز بالنتيجة قدرات النظام السوري في الداخل الفلسطيني وإن تكن ليست خارج تأثيراته في “الدياسبورا” الفلسطينية. علاقة دمشق – “حماس” ستدخل في طور جديد اذا حصل السلام السوري – الاسرائيلي، لكن مصير هذه العلاقة أمر مختلف. الموضوع ذو الطابع الاستراتيجي بالنسبة الى اسرائيل هو ما آل اليه “حزب الله” كجيش ذي قدرات اقليمية في جنوب لبنان. هذا هو المعنى الاساسي لـ”إعادة النظر في علاقة سوريا بايران”. إنه جوهرياً إعادة ترتيب الاولويات في التحالف السوري – الايراني، ومن الصعب، بل من المستحيل اعتباره إنهاء للتحالف السوري – الايراني ولا أريد أن استخدم كلمة “سذاجة” في وصف مطلب “إنهاء” هذا التحالف! إنها إذن مفاوضات سورية – اسرائيلية لا تدور حول نص “معاهدة السلام” الجاهزة بل الناضجة، وإنما حول “تفاهمات” سياسية وأمنية “محيطة” بموقع سوريا الاقليمي والدولي. -3 إذا سلمنا أن “مشكلة” المفاوضات تكمن في قضايا خارج إطار “معاهدة السلام”، بحثاً عن “تفاهمات جوهرية” لكن غير مكتوبة، فالسؤال هو الآتي: هل يعني ذلك ان هذه المفاوضات محكومة بأن تترافق مع آليات غير تفاوضية؟! أو ما يمكن أن نسميه “ترافقها” مع وقائع تحصل على الارض هي جزء من بلورة السياق التفاوضي نفسه؟ هل يجوز القول عندها أن ضرب موقع “دير الزور” الذي قام به الطيران الاسرائيلي هو أحد “الوقائع” الاستباقية أو التواكبية التي لا تمس مصير التحالف السوري الايراني لكن تمس حدوده؟ إذن، لأن “التفاهمات” لا “المعاهدة” باتت في المرتبة الاولى من مهمات التفاوض السوري – الاسرائيلي، فإنه تفاوض متحرك… تفاوض لا تفاوضي في بعض مراحله، قد يسبق وقائع وقد تسبقه وقائع؟ هل  تصلح واقعة اغتيال عماد مغنية كدلالة في هذا السياق؟ من الصعب مقاومة الاغراء المنطقي لهذا الرأي. ولو كان من الضروري تجنب التبسيط. فإبعاد مغنية مطلب اميركي أكثر منه اسرائيلياً، ثم ان الاستنتاج حوله يتعلق بالمشترك بين طرفي التحالف السوري – الايراني لا بحسابات طرف واحد. الصمت المخابراتي الذي ينبعث من اعداء عماد مغنية كما من بعض “اصدقائه” الايرانيين، الضجيج التعبوي الذي يرافق ترميزه السياسي، يجعلان من هذا النتاج الثمانيناتي الذي ولد اصلاً – مثل “حزب الله” – من دخول مخابرات الثورة الايرانية على خط الصراعات الدولية في السنين الاخيرة من “الحرب الباردة”، حالة متأخرة من الإحالة القاتلة على البطالة السياسية: كارلوس في السجن، “الجيش الاحمر” الياباني، “بادر ماينهوف” الألماني، “الجيش الأرمني السري”، “الألوية الحمر” الايطالية… كل هذه التنظيمات المتلاشية بسبب بطالة من نوع مذهل: انتهى “العالم” السوفياتي الذي انتجها او تسبب بها. لكن المفارقة في حالة عماد مغنية خلافا للأمثلة السابقة، ان بيئته تواصلت وانتقلت الى محورية جديدة. اولئك السابقون غابوا تدريجيا مع بيئتهم التي غابت. بينما عماد مغنية غاب هو وبقية البيئة التي كانت اصلا قد ولجت عميقاً في مرحلتها الثالثة. المرحلة الاولى في الثمانينات عندما لمع دوره ابان احتدام الصراع بين ايران وبين الولايات المتحدة وبعض الدول الاوروبية. وكانت مادتها عمليات تفجيرية في لبنان وخارجه، طورا “تحت الحزام” ضد مدنيين ابرياء وطوراً ضد عسكريين. المرحلة الثانية عندما طغى على “حزب الله” دور حركة تحرير الجنوب والبقاع الغربي اللبنانيين من الاحتلال الاسرائيلي. والمرحلة الثالثة بعد العام 2000 عندما طغى على “حزب الله” دور “الجيش الاقليمي” الردعي في الصراع الايراني – الاسرائيلي وعبر اسرائيل الولايات المتحدة، ولاسيما بعد القرار الاميركي بالقطيعة مع دمشق التي تلت الخروج السوري من لبنان. قطيعة عنت طويلا وجود مشروع لاسقاط النظام السوري نفسه. بين الدول، عندما جلس المفاوضون المصريون والاسرائيليون امام بعضهم البعض في “كامب ديفيد” كان “نص المعاهدة” المطروح يختزن كل مصير الصراع. ايضا بين الاردنيين والاسرائيليين لاحقا. وبعد ذلك بين المفاوضين السوريين والاسرائيليين في عهد الرئيس حافظ الاسد. اما اليوم، فللمرة الاولى في مفاوضات بين دولة عربية ودولة اسرائيل اصبحت المعضلات الجوهرية والصراعية تتعلق بقضايا خارج النص التعاهدي ذاته. اضافة الى انها عمليا – وبتسليم اسرائيلي – تشمل التفاوض لا باسم دولة ثانية هي لبنان ولكن باسم وضع آخر هو الوضع اللبناني! III رغم الوساطة التركية، لم تصل المفاوضات السورية – الاسرائيلية حتى اللحظة الى مرحلة التحول الى مسار مُسلّم به، بانتظار التغير المعلن للموقف الاميركي الذي تستحوذ عليه الاولوية العراقية. وهي اولوية لن تفرض نفسها فقط على اي “تفاهم” سوري – اسرائيلي مستقبلي، بل فرضت نفسها اصلاً منذ 9 نيسان 2003 في سياق صراعي صرف ولو غير مباشر في البداية. ثم لاحقا خصوصا منذ العام 2007 اصبحت مختبرا متبادلا للاستعداد السلمي في العلاقات الاميركية السورية. ولأنها باتت مفاوضات على “تفاهمات” غير محصورة بنص “معاهدة سلام” ناضجة بل جاهزة، ربما يمكن السؤال هل كان حتى للوساطة التركية ان تنطلق، بدون ان يكون الحل السوري لموضوع “حزب الله” وبالتالي لمشكلة موقع لبنان في الصراع الاقليمي قد عاد يستحوذ على اهتمام في المجرى العميق للعلاقات الدولية؟ اهتمام لا زال اختباريا. ولكن المفاوضات السورية – الاسرائيلية بشكلها “التركي” الحالي تعني اعادة وضعه على الطاولة! بكلام آخر: هل نحن في مخاض “الحل السوري” لموضوع “حزب الله”؟ لقد اتاح النظام الطائفي اللبناني منذ تأسيسه عام 1926 حتى الآن ولادة جيشين اقليميين على الارض اللبنانية. الجيش الاقليمي الاول كان “الجيش الفلسطيني” الذي كان عماده حركة “فتح” بعد العام 1967 ولاسيما بعد العام 1970. والجيش الاقليمي الثاني كان “حزب الله”. نقصد بمفهوم “الجيش الاقليمي” أمرين: دور “اقليمي” يتجاوز الصراع الداخلي اللبناني، وبنية عسكرية ذات قدرات “اقليمية”. “الجيوش” اللبنانية كانت موجودة دائما بحكم البنية “الفيديرالية” غير المعلنة للنظام الطائفي، والمعبر عنها بسلاح الاجهزة السياسية داخل كل طائفة لبنانية اساسية، وتحديدا عند الموارنة والسنة والدروز ولاحقا الشيعة. لا اعني اذن هنا “الدويلات” الطائفية التي كانت دائما موجودة بسبب النظام الطائفي الذي يجعل الدولة اللبنانية دولة ضعيفة حتما في كل المراحل. انما الأمر الجديد المختلف في حالة “الجيش الاقليمي” انه يملك قدرات عسكرية وتدريبية تتخطى “الجيوش” المحلية وينخرط في صراع ذي برنامج “اقليمي”. والجديد المستجد في حالة “حزب الله” انه “جيش اقليمي” ينشأ للمرة الاولى في داخل طائفة لبنانية، اي ان جسمه الاجتماعي لبناني، في حين ان “الجيش الاقليمي” الذي تفجرت حوله الحرب الاهلية قبل 1975 وبعده كان ذا جسم اجتماعي من غير اللبنانيين، بين اللاجئين الفلسطينيين والفلسطينيين الذين التحقوا بهم بعد 1967. الخلاصة التي تنبني عليها فكرة هذا المقال الأساسية، هي ان الوصول الى توقيع معاهدة سلام سورية – اسرائيلية “محكوم” بالوصول الى تفاهم سوري – اسرائيلي (وبالتالي اميركي – سوري) على انهاء المشروع العسكري الاقليمي لـ”حزب الله” والا من المستحيل تصور هذا التوقيع من الزاوية الاسرائيلية (وبالتالي الاميركية). السؤال الاشكالي من وجهة نظري كمراقب الذي لا جواب عندي عليه الآن والذي يحتاج الى تدقيق هو: هل هناك “تفاهمات” اخرى مع سوريا تعادل موضوع “حزب الله” مطلوبة من وجهة النظر الاسرائيلية؟ واية مطالب يمكن ان تعتبرها اسرائيل استراتيجية في الدور السوري تعادل هذا الموضوع بما آل اليه؟ ••• … انها مرحلة مدهشة من التحولات في العالم العربي. بعضها عابر وبعضها لا يبدو كذلك. في العابر، اننا عشنا في عهد ادارة الرئيس جورج دبليو بوش زمنا ظهرت فيه الادارة الاميركية – للمرة الاولى في تاريخ الديبلوماسية الاميركية في الصراع العربي – الاسرائيلي اكثر تصلباً حيال دولة عربية من الحكومة الاسرائيلية نفسها. اميركا منحازة تقليديا الى الموقف الاسرائيلي. لكن ادارة بوش لعبت ولا تزال الدور الاول في رفض نزوع اسرائيل الى مفاوضات مع سوريا. حتى اللحظة “المعادلة” مقلوبة: اذ ان واشنطن هي التي تطالب اسرائيل بالانحياز اليها في رفض التفاوض مع سوريا. كان “الوسيط” الأميركي المنحاز لاسرائيل هو الذي يضغط قبل بوش الابن على صنّاع القرار في القدس المحتلة لتخفيف شروطهم لاقامة السلام مع البلد العربي المعني. ولا بد – كما يظهر – ان هذه المعادلة ستعود تدريجاً الى وضعها الطبيعي بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية في تشرين الثاني المقبل. في غير العابر اننا بدأنا نشهد زمنا سياسيا لم نكن لنجرؤ على تخيله قبل سنوات، انه زمن التنافس العربي – العربي على الاقتراب من اسرائيل… اعني التنافس بين الدول العربية الاساسية: مصر، السعودية، سوريا… لقد نشأ صراع جديد في المنطقة اسمه الصراع على اسرائيل! واكتفي بهذا القدر هنا لأنني لا اريد ان اخرج عن موضوع المحور، وانما الاشارة الضرورية الى هذا المعطى الجديد الذي تنبغي مراقبته الى جانب المعادلات الكلاسيكية الراسخة منذ العام 1948. (•) راجع مقال جهاد الزين: “ثلاث أساطير حول النظام السوري”. “قضايا النهار” 3/ 5/2008. النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى