واشنطن ـ بغداد : طهران وألغام المعاهدة!
عبد الحسين شعبان (*)
المعاهدة العراقيّة ـ الاميركيّة لا تزال بكاملها غامضة ومبهمة وسرّية حتى الآن ولذلك أحيطت بهالةٍ كبيرةٍ رغم ردود الفعل الشديدة إزائها عراقيّاً وإقليميّاً ودوليّاً، ولعلّ زيارة رئيس الوزراء نوري المالكي الى طهران كانت بهدف تطمينها بأن العراق لن يكون منطلقاً للهجوم على إيران، ورغم إرتباطه مع “الحليف” الاميركي بمعاهدةٍ استراتيجيّةٍ مرتقبة، الاّ إنّه يحتفظ بعلاقات صداقة حميمة مع “الصديق” الإيراني في الوقت نفسه، الأمر الّذي يعتبره بعضهم تفاقماً وتعميقاً للصراع المعلن والخفي بين إيران والولايات المتّحدة في العراق من خلال حروبٍ بالوكالة، لاسيّما وإن المنافسة بينهما على من سيكون تأثيره أكبر في العراق !
إن ما سنناقشه يدخل في ما يُسمّى بالإعلام بمعلوماتٍ و أخبارٍ عن بعض مواد المعاهدة أو خطوطها العريضة ومن باب التكهّن وليس نصوصاً محدّدة، وقد يكون الهدف من عدم نشر النصوص يعود الى محاولة جسّ النبض ومعرفة ردود فعل الشارع العراقي وكذلك ردّ الفعل العربي والإقليمي، فالجدل الّذي احتدم وصل الى اسم المعاهدة وتفاصيلها وحيثيّاتها، ناهيكم عن طريقة إبرامها والتوقيع عليها، فالبعض اعتبرها معاهدة استراتيجيّة، والبعض الآخر قال إنّها معاهدة أمنيّة، وبعضهم اعتبرها معاهدةً سياسيّة وعسكريّة، وأيّاً كانت التسميات فالمعاهدة تُعقد بين طرفين أحدهما قويّ والآخر ضعيف، وتُعقد بعد خمس سنواتٍ من احتلال العراق وفي ظلّ وجود أكثر من 151 ألف جنديّ اميركي، ولا تزال سيادة العراق مجروحة ومعوّمة، ولا يزال سيف الفصل السابع الخاص بالعقوبات طبقاً لميثاق الأمم المتّحدة مصلّتاً عليه، و لعلّ هذا هو الوجه الثاني للإبتزاز، كما يعاني العراق من احترابٍ داخليّ وانقسامٍ وظيفيّ مذهبيّ وتفشّي ظاهرة المليشيات واستشراء الفساد والرشوة واستفحال الإرهاب والعنف، وأوّلاً وقبل كلّ شيء ضياع هيبة الدولة التي ليس بمقدورها حتى الآن ضبط النظام وحفظ الأمن العام، وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، وتلك أبسط مقوّمات وجود دولة.
وتُعقد المعاهدة والأطراف المهيمنة على العملية السياسيّة لا تزال تتشبّث ببقاء القوّات المحتلّة وقد تمّ تمديدها خلال السنوات الخمس الماضية من الحكومات الأربع دون الرجوع الى الشعب وحتى دون أخذ رأي البرلمان، وتبرّر الحكومة العراقية إبرام المعاهدة برغبتها في إنهاء الإرتباط بقرارات مجلس الأمن والفصل السابع والقوّات المتعدّدة الجنسيّات.
ورغم ان إعلان المبادئ الذي أبرم في غرفةٍ تلفزيونيّة مغلقة بين الرئيس بوش ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، كان قد وضع الخطوط العريضة للإتّفاقيّة المرتقبة، إلا أنه لم يُثر مثل ردود الأفعال التي نضجت فيما بعد، لاسيّما بعد تلمّس بعض القوى السياسيّة المشاركة في العمليّة السياسيّة حجم المعارضة الشعبيّة للإتّفاقيّة، الأمر الذي دفع بعضها، لاسيّما القوى المتنفّذة الى معارضة بعض بنود الإتّفاقيّة، بهدف استثمار ردّ الفعل الشعبي للضغط على واشنطن لتحسين شروط التفاوض، ومن جهةٍ أخرى لتحسين صورتها في الشارع العراقي.
فالحكومة العراقية تريد من الولايات المتّحدة أن تعاملها بأنّها حكومة ذات سيادة، ورغم إن واشنطن تروّج خارج نطاق العلاقة الثنائيّة، الى أن العراق إستعاد سيادته في 30 حزيران 2004 وبقي أن يستكمل بعض جوانبها العمليّة المنقوصة، الا إنها تدرك حجم الإختلال في هذه العلاقة التي تريدها بين تابع ومتبوع.
والحكومة العراقية توافق على تقديم تسهيلاتٍ لواشنطن، لكنّها تريدها تسهيلاتٍ مؤقّتةً في حين تريدها واشنطن مفتوحة، كما توافق على قواعد مؤقّتة وقد يُعاد النظر فيها كلّ سنةٍ مثلاً وبإيجار معلوم، لكن واشنطن تريدها قواعد عسكريّة طويلة الأمد، وقد تدفع الحكومة العراقية نفقاتها كما هو حاصل مع بلدان أخرى، وتوافق بغداد على تحرّك القوّات الاميركية وقيامها بشنّ عمليّات عسكرية داخل العراق لملاحقة الإرهاب محتفظة بحقّها دون منازع في تفسير الإرهاب، إضافة الى حق إعتقال من تريد إعتقاله، وتحمي نفسها بالتمتّع بالحصانة القانونيّة لجنودها وشركاتها الأمنيّة، والمقاولين والعاملين معها، وبغداد موافقةٌ على هذه الشروط ولكن بعد إبلاغها أو أخذ موافقتها وحصر الحصانة القانونية للجنود والشركات أثناء العمليّات العسكرية، كما تريد رقابة على دخول وخروج الأموال الاميركية الى العراق عبر البنك المركزي، لكن واشنطن ترفض ذلك.
وتريد واشنطن امتيازات على الأرض ببناء قواعد عسكرية ثابتة ونقاط تفتيش قد تصل الى 50 نقطة، كما تريد امتيازات بالسيطرة على الأجواء العراقية حتى ارتفاع 29 ألف قدم وتسهيلات مفتوحة في المياه، الأمر الذي لا تستطيع بغداد رفضه بالكامل لكنها تريده بصيغةٍ تعديليّةٍ، والا فإنّ بديله يعني العودة الى قرار مجلس الأمن والفصل السابع من الميثاق.
ولعلّ هذا الجدل يُثار في واشنطن أيضاً حيث استفسر عدد من أعضاء الكونغرس الاميركي من وزيرة الخارجية كونداليزا رايس بشأن الإتّفاقية وكيف سيتمّ إبرامها وهل ستُعرض على الكونغرس أم إن الرئيس بوش يريد إمرارها باعتبارها إستمراراً للقرار التفويضي بشأن العراق العام 2002؟
وتريد الحكومة العراقية ضماناتٍ لحمايتها ضد أي عدوان خارجي ، وضمانات أخرى لحماية النظام الّذي تأسّس بعد الإحتلال، أي أنها تريد ضمانات لحماية العمليّة السياسيّة القائمة، التي قد تنهار أو تُجري تغييراتٍ لمساراتها الأساسيّة إذا تخلّى عنها الاميركان، لكن واشنطن هي التي ستقرر في النهاية فيما إذا تعرّض البلد الى عدوان خارجيّ أو حصل ما يستوجب تدخّلها لحماية النظام، الأمر الّذي سيجعل المقدّرات العراقية كلّها بيد واشنطن.
وإذا كان قانون النفط والغاز لم يتم إقراره في البرلمان، فإن وجود قواعد اميركية عسكرية متقدّمة في الشرق العربي، سيكون عنصر تهديدٍ لا للعراق حسب وسيادته وموارده بل لجيرانه أيضاً، ولعموم دول المنطقة، التي ستكون نفوطها في الحال والمستقبل تحت هيمنة القوّة العسكرية.
وعلى افتراض تعديل أو تحسين بعض مواد الإتّفاقية، الا إن ذلك لا يغيّر من حقيقة الوضع القانوني الذي تنظّمه الإتّفاقية والذي سيترك تأثيراته السلبيّة لو حصل على مستقبل العراق لسنواتٍ طويلة، وقد يضطر الشعب العراقي الى إلغاء المعاهدة كما حصل في معاهدة بورتسموث عام 1948 والمعاهدة العراقية الاميركية عام 1954 وميثاق حلف بغداد عام 1955 بعد ثورة 14 تموز ( يوليو ) عام 1958، ولكنّ ذلك لن يكون بدون معاناةٍ وعذاباتٍ وخسائر فادحة اجترحها العراقيون لعقودٍ من الزمان ويبدو إن عليهم أن يسدّدوا فواتير أخرى جديدة !!
(*) كاتب وحقوقي عراقي
المستقبل