صفحات مختارة

المثقفون ومسارات الردة

null
جان بودوان
ما الذي أصبح عليه حال الماركسيين اليوم ؟ بعضهم انخرط في “ماركسية بيان الموجودات”، والآخرون تخلوا بعد تمعن عن المرجعية الماركسية واتجهوا صوب مبادرات فكرية مغايرة. وبمكر تاريخي؛ فإن الجامعيين الأنجلوسكسونيين هم الذين أصبحوا اليوم يوفرون للماركسية أكثر الآفاق التجديدية أصالة.
في كتابه التقليدي “حول الماركسية الغربية” المنشور سنة 1977 ربط بيرُي أندرسون النجاح السياسي والمادي للماركسية بشرطين اثنين: من جهة بوجود حزب شيوعي قوي وقادر في نفس الآن على تنظيم غالبية أفراد الطبقة العمالية وتشكيل قطب بديل. ومن جهة أخرى بوجود أنتلجنسيا كثيرة العدد وديناميكية، مهتمة بازدهار ثقافة ماركسية حية وخلاقة. وهذان الشرطان لم يجتمعا على مستوى تاريخ البلدان الأوربية إلا في ثلاثة بلدان: ألمانيا خلال العشرينيات، إيطاليا وفرنسا حيث تمكنت الأحزاب الشيوعية ووجه المثقف اليساري من الاحتلال الدائم لمكانة مركزية في الحياة السياسية. لكن كان على الماركسية في هذه البلدان ذاتها أن تعاني من فشل المحاولات الثورية للسنوات ما بين 1920-1917، وأن تعرف “طلاقا بنيويا في ما بين النظرية والممارسة”.
وهكذا فإن الإنتاج النظري بأوربا الغربية انتقل رويدا رويدا من أيدي حكام وقواد ثوريين (لينين، غرامشي، روزا لوكسمبورغ، تروتسكي…) إلى أيدي فلاسفة محترفين وإلى متخصصين في العلوم الاجتماعية (أدورنو، ماركوز، ألتوسير، بولانتزاس…).
ولم يكن على سيرورة التقديس هذه للماركسية أن تجعلها بشكل نهائي في مأمن من الضربات المضادة لانحطاط الأحزاب الشيوعية انطلاقا من السبعينيات: فالماركسية مست في وظيفتها النبوية بفعل الابتعاد عن الأفق الثوري، والفضاءات التي نشطت للحفاظ على ثقافة ماركسية (حلقات، معاهد، مجلات) قاست من الصعوبات المالية للأحزاب الشيوعية، وقد قادت أزمة هذه الأحزاب نحو إعادة مساءلة المصادرات المؤسسة للعقيدة الماركسية.
ماركسية بيان الموجودات
وفي هذا السياق اختلف المفكرون والتيارات التي تأثرت بالماركسية بخصوص الموقف الذي يجب تبنيه. البعض بأوربا الغربية أقام جردا للماركسية باللجوء إلى إعادة قراءة نقدية لأعمال ماركس، والبعض الآخر أخذ علما ببطلان استعمال الماركسية وتقادمها من خلال اكتشاف آفاق فكرية جديدة. وما يعتبر مكرا للتاريخ هو أنه منذ الآن وبالبلدان الأنجلو سكسونية، المستعصية تقليديا على الفكر الماركسي، يلاحظ تجدد وانبعاث لهذا الفكر.
إن ماركسية بيان الموجودات هي بفرنسا وبشكل جوهري من فعل مجلة “ماركس الحالي Actuel Marx”، وقد أسست سنة 1987 بمبادرة من ج. بيدي و ج. تيكسيي، وهي تجمع المفكرين الذين على صورة ج. لابيكا و. باليبار و ي. كينيو أو ل. سيف انتموا أو لا زالوا ينتمون لـ PCF، لكنهم المفكرين الذين ينوون منذ اليوم مباشرة تأمل مستقل ومتحرر من أي ولاء أو تحزب.
إن قراءتهم النقدية تتمحور حول ثلاثة أبعاد للماركسية:
• لقد جودلت الماركسية بادئ ذي بدء في طموحاتها الأولى. لقد زعمت أنها توفر أدوات التحليل التي ستمكن في نفس الآن من فهم طبيعة تطور العالم الاجتماعي وتسريع تغيراته. وهي منذ الآن مشكوك فيها بشكل مزدوج: شك في قدرتها على وصف الاشتغال الواقعي للمجتمعات الحديثة وفي مزاعمها لاقتراح بديل جذاب للرأسمالية.
• وما يناقش في الماركسية أيضا هو قدرتها التنبئية. لقد نصت على أن “الرأسمالية ستحفر قبرها بظلفها”، بيد أنه تبين أن هذه الأخيرة قادرة على التحكم في تناقضاتها الداخلية وعلى تأمين نمو للإنتاج وعلى تحقيق مستوى معيشة أمثل اجتماعيا.
• إن الماركسية مشكوك فيها بشك أعمق بخصوص مزاعمها العلمية؛ ففكرة قدرتها على تشكيل نظام مستنفذ لتأويل العالم أو أيضا لنموذج نهائي لمعقولية الحركة الاجتماعية هو اليوم مسألة صرف عنها النظر. وحسب ك. بيتلهايم الذي كان في فرنسا أحد أبرز الاقتصاديين الماركسيين وأحد أفضل المتخصصين في “مجتمعات الانتقال”، فإن التاريخ لا يندرج في نهاية محددة مسبقا؛ إنه يتضمن نصيبا هاما من اللاحتمية ويجب أن تعتبر الحظوظ التي يقدمها من أجل تحسين المجتمعات الموجودة كما لو أنها “إمكانات” وليست “ضرورات”.
إن هذا الموقف “النقدي النزعة” من قبل الوسط الفرنسي المتمركس لا يعدم التذكير بالمسعى الفكري للفيلسوف الإيطالي لوسيو كولّيتي؛ ففي “انحطاط الماركسية” المنشور سنة 1948 لم يتردد هذا الأخير بالفعل عن أن يستدعي لقدم المريض المكتسبات المركزية لإبستمولوجيا كارل ﭙوﭙر الذي أخذ على ماركس في كتابه “المجتمع المفتوح وأعداؤه” كونه تصور عمله كما لو كان “نظاما مغلقا” ودوغماطيقيا يتسلح دوما بأدوات المناعة ضد قرارات الواقع المضادة. إن “ماركسية الأزمة” تقبل مساءلة حيثياتها الأكثر عمقا، وأن تعرضها لعقاب الوقائع المحتمل، والاعتراف بمعنى ما بنقصان النظرية مع إيلاء انتباه جديد كليا للقارات الفكرية الأخرى. إن العقيدة الماركسية حتى ولو تم الاحتفاظ بها، لم تعد النجم اللامع الوحيد في سماء الإيديولوجيات.
الالتفاف المدروس على المرجعية الماركسية
إن المفكرين والتيارات المتمركسة عندما لا يختارون ماركسية بيان الموجودات هاته فإنهم يهجرونها لموقف النسيان أو التهجين. ومن وجهة النظر هاته فإن ثلاثة أنواع من المبادرات الفكرية تستحق الذكر وهي تمثل انعطافا إن لم نقل قطيعة هامة للعلاقة مع الوصية النظرية للماركسية، ولكنه الانعطاف أو القطيعة التي توفر أيضا مخرجا معقولا لكل أولئك الذين “صدقوا” وآمنوا بصلاحية هذا الفكر الداخلية: 1) النظرية الاجتماعية للإيطالي سلفاتور فيكا المستلهمة من الفيلسوف الأمريكي جون راولس؛ 2) نظرية الفعل التواصلي لدى يورغن هابرماس؛ 3) وأخيرا سوسيولوجيا بيير بورديو التي ولو أنها انتشرت في إطار سوسيولوجية أجنبية عن التكهن الماركسي، فإنها تقدم على الأقل تشابهات وتماثلات هامة مع المنظور الاجتماعي لدى ماركس.
الغواية الراولسية:
يعتبر سلفاتور فيكا عموما الناطق الرئيسي في ما وراء الألب باسم فكرة جون راولس؛ ففي كتاب صدر سنة 1987 بعنوان: “برنامج ماركس الاقتصادي” انتقد عقيدة ماركس لأنها لا تساعد من وجهة نظره على التفكير الصحيح في إحراجات (مشاكل منطقية غير قابلة للحل) حداثتنا الليبرالية. وقد ترك المجال في كتبه الأخيرة للاعتقاد بأن الفلسفة السياسية لمؤلف “نظرية العدالة” هي الأفضل موقعا للحلول محل ماركسية لا وارث لها، ولإصلاح التفكير الجماعي منذ الآن في مستقبل المجتمعات الإنسانية.
وبشكل عام فإن فكر جون راولس يوفر منفعة لا تنكر للمثقفين الماركسيين الذي هم في حالة انقطاع معلن عنها، والذين هم على شاكلة س. فيكا في بحث دائب عن آفاق جديدة. إنه يبرهن على أن التخلي عن الماركسية التي هي في نفس الآن شبيهة بيوتوبيا علمانية وبأداة للتحليل لا تستلزم أبدا الانخراط بلا تحفظ في نظرة فردانية للمجتمع. إنه يمكن من تعميق تبرير الديمقراطية، ودعم الحريات السياسية ونوابض الاقتصاد الليبرالي مع العمل في نفس الآن على اقتراح مبادئ للعدالة الاجتماعية.
إعادة البناء الهابرماسية:
بكل تأكيد يمثل عمل هابرماس غير المكتمل “خروجا” من الأورثودوكسيا التي كثر تبجيلها وتعظيمها في نظر مستعمل قديم للمذهب الماركسي.
لقد عمق يورغن هابرماس حركة التباعد التي مارستها مدرسة فرانكفورت قبلا حيال النظرية الماركسية. ولقد عبر في كتابه “ما بعد ماركس” عن إرادته في تحرير أفكاره الخاصة من الإطارات الأساسية للأورثودوكسيا الماركسية وتجديد الاتصال بتقليد ألماني قديم يحدد للفلسفة مهمة توحيد مساهمات المباحث الأكثر تنوعا بداخل بناء جامع، فما هي بالضبط المكانة التي احتفظت بها هذه الماركسية المطهرة سابقا في كنف هذه الكوكبة الفكرية الجديدة ؟ فإذا كانت الماركسية لا تزال مطلوبة بالنسبة ليورغن هابرماس من أجل المساهمة في فهم الشأن المجتمعي وتوضيح تناقضاته، فلم يعد من شأنها بالمقابل أمر إصدار الوصايا و لا حتى ممارسة النبوءة. إن عمل العلمنة يطرح على الأقل السؤال التالي: هل من الممكن، مع الحفاظ تماما في الذهن على ضرورة نقد للهيمنة، تصور نظرية للانعتاق لم تعد تمر أبدا عبر يوتوبيا ثورية ؟ نعم، يجيب هابرماس، لكن بشرط جمع النموذج الكلاسيكي للهيمنة بالنموذج الأوسع للتواصل. هنا تكمن المساهمة الأكثر خصوبة بكل تأكيد لإعادة البناء الهابرماسية للمادية الديالكتيكية، والتي عرضت نتائجها في “نظرية الفعل التواصلي”.
منذ أن فقدت التقاليد والعادات والقيم سلطتها المنظمة والضابطة وتمددت وتتمدد دائما إلى الأمام أكثر ضروب المنطق المحاذية لـ”العالم المدار” و”العالم التجاري” “استعمار بنيات العالم المعيش”، فإن الحفاظ على / وتوسع “فضاءات التفاهم المشترك” تمثل في أعين هابرماس العقبة الرئيسية في وجه خيبة الأمل. لا شيء أكثر استعجالا بالخصوص من الحفاظ على بنيات الحياة الاجتماعية، والأسرة في المقام الأول لأنها تتعرض بشكل أكثر فعالية مع ضروب المنطق المدمجة لاقتصاد السوق والإدارة النظامية. لقد قادت هذه المهمة هابرماس إلى إعادة الإعلاء من شأن الديمقراطية على حساب الليبرالية. وهو يعتبر إقامة دولة الحق المحترمة للحريات والمراهنة في النهاية على إعادة بناء “فضاء عمومي” يساهم المواطنون في كنفه طبقا لتعاليم الأخلاق التواصلية في إنتاج واتخاذ القرارات العمومية مكسبا حاسما.
سوسيولوجيا بيير بورديو النقدية:
تجدد الماركسية الأنجلوفونية
علينا أن نعترف ولو أن إنجلترا هي الأرض التي شهدت ميلاد الاقتصاد السياسي الماركسي بأن ما لم يكن منتظرا هو أن تتجدد الماركسية انطلاقا من جامعة أوكسفورد أو كمبريدج، هارفارد أو ستانفورد إن لم تشكل توسعا معتدلا للماركسية الغربية. وبالفعل، فحتى الثمانينيات برز الفكر الماركسي بداخل المشهد الفكري البريطاني كثؤلل صغير معلق بالإرادة الطيبة لدى الأكاديميات المهيمنة. وقد وقف تأثيره في كنف الجامعة عند حد “مساحات محدودة”: وعلى سبيل المثال التاريخ المعاصر حيث مارست أعمال م. دوب و. هوبسباون أو ت. كليف إشعاعا حقيقيا.
وفي الوقت ذاته الذي مارست فيه إغراء وجاذبية كبيرين على الأوساط الفكرية القارية، من كان يستطيع أن يتصور أن هذه الماركسية المجدة والوحيدة ستستبق بالعل المصير اللاحق للماركسية الغربية وستملي عليها حتى الشروط القبلية لبقائها على قيد الحياة !
وانطلاقا من الثمانينيات بالمقابل التقت الماركسية الأنجلوفونية هذا النزوع الثقيل للمشهد البريطاني الذي شكلته الفلسفة التحليلية بمزجها خلسة للانشغالات والمبادئ والاحتياطات الحذرة: ونتجت عن ذلك ماركسية متثاقفة بشكل كامل. ماركسية هي في نفس الآن “تحليلية”، “فردانية” و”أخلاقية”.
ماركسية تحليلية:
يعلن على العموم كتاب ج. أ. كوهن “نظرية التاريخ لدى كارل ماركس” الذي ظهر سنة 1978 حفل الخطوبة الغريب نوعا ما بين الماركسية الأنجلو سكسونية والفلسفة التحليلية. وج. أ كوهن الذي كان تلميذا لجيرار ريل؛ المدير النافذ التأثير في مجلة “مايند = العقل” ينبه في مستهل الكتاب إلى أنه فرض على ذاته “إكراهين اثنين: نصوص ماركس من جهة، ومعايير الوضوح والصرامة التي تسم فلسفة القرن العشرين التحليلية من جهة أخرى”. وقد شكل هذا المسعى مدرسة وفتح آفاق التطور الجديدة التي ستمكن من توطيد فرع ديناميكي وأصيل للماركسية الغربية حول مفكرين كجون إيلستر، آدم بريفورسكي، جون رومر، ب. فان بارييس أو إ. أ. ورايت.
وتطبق “الماركسية التحليلية” على التقليد الفكري المنحدر من أعمال ماركس المناهج والقواعد المعروفة بأنها في مبدأ كل بحث ذا سمة علمية. إن الفكر الماركسي لم يعد يعتبر وبشكل يحظى بالأسبقية كـ: “تصور شمولي للعالم ، وإنما كمجموع محدود من المشاهد النظرية قابلة للعزل والتحليل وقابلة للرفض أيضا احتمالا. أعمال ماركس مفككة هنا بحرص شديد إلى تعدد من القضايا من بينها قضايا هي من العمومية المفرطة حتى أنها لا تقبل أن تحاكم تجريبيا، لكن بعضها الآخر واضح ومحدد بما يكفي بشكل يمكن من تعريضه لـ “مبدأ التحقق”. وهذا المنهج التحليلي المتمثل في مجابهة القضايا المفردة للنظرية الماركسية بتطور المجتمعات هو مشغل بشكل خاص في مجال النظرية الاقتصادية. وهكذا لا يتردد ببريطانيا العظمى ج. أ. رومر أو أيضا ب. برينير في وضع الأصناف المركزية للاقتصاد السياسي الماركسي موضع تساؤل: القيمة، الاستغلال، فائض القيمة، بينما تناول إ. أ. ورايت مفهوم “الطبقات” الاجتماعية العريق على ضوء التحولات المعاصرة.
ولو أن الماركسية التحليلية لم تعلن عن ذلك كمرجع فإن الموقف “النقدي النزعة” وليس الدوغماطيقي الذي تتبناه الماركسية الأنجلوفونية يحين على طريقته المقاربة الجديدة التي جربها كارل بوبر سنة 1942 في كتابه الكلاسيكي “المجتمع المفتوح وأعداؤه”.
لقد كان الإبستمولوجي الفييني (نسبة لمدينة فيينا) قد قرر حينها أن يحمل على محمل الجد الزعم العلمي للفكر الماركسي ـ الذي ميزه بدقة عن نسله “الماركسي” ـ وأن يعتبر أطروحاته الأساسية عبارة عن قضايا قابلة للتكذيب منطقيا وتجريبيا ومن ثم توقفت الماركسية عن أن تكون غرابة فكرية لكي تضحي مجرد بناء فرضي استنتاجي قابل للمحاكمة بهذه الصفة بالإجراءات المستخدمة في كنف مجتمع العلماء.
إن تطبيق معالجة ذات خصائص علمية على الماركسية يطرح مشكلة كبرى على كل أولئك الذين لا يفقدون الأمل رغم كل شيء من الأدوات الفكرية الموصى بها من طرف مؤلف “رأس المال”. فهل يمكن أن تقود احتمالا مستخدميها إلى هجران عقيدة أضحت متقادمة ؟ تلك على سبيل المثال هي قناعة كارل بوبر. وإذا ما توقفنا عن اعتبار الفكر الماركسي كما لو كان فكرا “صادقا” بالضرورة، كشكل من أشكال قبلي المعرفة، حتى لا يتم الاحتفاظ منه إلا بمجموعة من القضايا القابلة للتحقق والتكذيب تجريبيا، ماركسية فاضلة وصادقة ستقبل إذا اقتضى الحال ذلك أن يتم إبطالها. إن تقريرا نقديا ومخيبا لآمال النظرية الماركسية هو تقرير قاتل لها بالقوة.
والماركسية التحليلية تقبل هذا الاحتمال؛ إنها تقبل وجوب أن يتضمن استعمال صارم للفكر الماركسي وبشكل فبلي فرضية اختفائه الخاص بوصفه بنية لفهم العالم الاجتماعي، وقد تم الدفاع عن هذا الرأي بصلابة من طرف جون إيلستر الذي يعتقد بوجوب أن يظل تقييم المفاهيم الماركسية وبصرامة مستقلا عن أي اعتبار إيديولوجي.
ماركسية فردانية:
المساهمة الثانية للماركسية الأنجلو سكسونية تمثلت في جمع التحليل الماركسي مع ما يعتبر مبدئيا نقيضا له: أي الفردانية الميثودولوجية ومصادرة الاختيار العقلاني.
فإذا كانت الماركسية تقدم نظرية للتاريخ تحقق الرضا غالبا، فإنها تصبح باطلة بشكل غريب عندما يتعلق الأمر بالتنظير للأفراد الذين يصنعون هذا التاريخ. تلك كانت القناعة الأمثل رسوخا لدى الماركسية التحليلية: فالنزعة الفردانية الميثودولوجية، وبشكل مفرد نموذج الاختيار العقلاني، إن لم تكن نظرية الألعاب تمكن بشكل جد نافع من تصحيح وتقويم “السببيات الخطية” التي وصمت الماركسية الكلاسيكية وعاقتها عن التفكير أيضا في اللعب الحر لقوة إرادة الفعل الفردية.
إن الفردانية الميثودولوجية تمكن على الخصوص من إعادة تأسيس نظرية فعل الطبقة وصراع الطبقات. وقد أشار كلود أوف خلال شرحه لأعمال آدم بريفورسكي على سبيل المثال إلى أنه في كنف بنية جد قامعة كبنية العبودية فإن العبد لم يكن “مسحوقا” كليا، بل كان يتوفر على عديد من “الاستراتيجيات”: استراتيجية المجابهة (سبارتاكوس)؛ الاستراتيجية الإصلاحية (المطالبة بتحسين ظروف العيش)؛ استراتيجية الخروج من المجتمع (خرجة هيرشمان)؛ الاستراتيجية الفردانية (الترقي إلى عبد-رئيس). فحيث تتعرف الماركسية المبتذلة على بديل وحيد؛ الانسحاق أو الثورة، فإن الماركسية الفردانية تحصي الاختيارات الأكثر تنوعا. إننا نحزر بسهولة أن ماركسية الاختيار العقلاني هاته تسحب كل عواقب هذا الاختيار الميثودولوجي على التطورات المعاصرة للمجتمعات الرأسمالية، وتعيد النظر خاصة في أطروحة السمة التي لا محيد عنها للثورة البروليتارية. إن الماركسية الكلاسيكية تصف سلسلة من السيرورات الموضوعية المؤدية “بالعمال” بالضرورة إلى الاتحاد من أجل “قلب” النظام الرأسمالي وإقامة نظام اجتماعي يخدم مصالحهم. والماركسية الأنجلوفونية تحاول على النقيض من ذلك تفسير لماذا لم تتحقق أية ثورة بالبلدان الرأسمالية المتقدمة.
ماركسية أخلاقية:
وبذلك فإن مختلف تنويعات الماركسية التحليلية توافقت بهذا الشكل من أجل التخلي عن الخلط الذي أقامه هيجل في ما بين عالم “الوقائع” وعالم “القيم”، والشك في إلحاق مفهوم الأخلاقية بمفهوم صراع الطبقات المجرى من قل ماركس. ونظرا لغياب تعيين أساس أخلاقي للماركسية فإنه يجمل الفصل بشكل أفضل في ما بين مجال التحليلات العلمية ومجال التقييمات الأخلاقية وربما أيضا إقرار الأطروحة الكانطية التي توجد حسبها مجموعة من الإلزامات العامة هي مستقلة عن التجربة المحض تاريخية والتي تفرض ذاتها بشكل إلزامي على الذوات العاقلة المحررة من كل احتمالية مادية أو اجتماعية.
إن إعادة تقييم الأخلاق لدى بعض ممثلي الماركسية التحليلية تستلزم عواقب أكثر جذرية؛ فبالنسبة لهم توجد نواة من المعايير الأخلاقية لا تدين في وجودها و لا في أصلها في شيء للتفكير الماركسي والتي يجب أن تحمل على محمل الجد إذا كنا نريد بناء مجتمع عادل. إن راولس هنا ليس بعيدا، ونحن نفهم أن عددا معينا من “الماركسيين التحليليين” رضخوا هم أنفسهم أيضا للمحاولة الراولسية، ك.ج. رومر على سبيل المثال الذي تصور توافقا في ما بين نظرية ماركس الاجتماعية وفلسفة راولس الأخلاقية. “لقد تغير التوزيع الجغرافي للأعمال النظرية حول الماركسية بعمق خلال العشرية الأخيرة، وحاليا يبدو أن المراكز الأساسية للإنتاج الفكري تجد ذاتها في العالم الأنجلوفوني بدل أن تجدها في أوربا الجرمانية أو الرومانية، كما كان الحال على التوالي خلال ما بين الحربين أو فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية”. وهذه المعاينة التي أجراها بيري أندرسون سنة 1983 لا زالت تحتفظ بكامل سدادها ووجاهتها. إن غالبية عائلات التفكير الماركسي انطفأت الواحدة تلو الأخرى، بينما كمنت نيران جديدة في ظل الفلسفة الأنجلو سكسونية. كما أنها تقوت بخصوص بعض القضايا بفعل تطوير البحوث ذات الاستلهام الماركسي بالولايات المتحدة سواء في المجال الاقتصادي للعلاقات الدولية (باران وسويزي – والرشتاين) أو في قطاع تحليل السياسات العمومية (أوكونور).
وتبرهن هذه التطورات الحديثة على أن الفكر الماركسي لا يمكن أن يظل على قيد الحياة إلا بفعل علمنة جذرية لمحتوياته، وفي هذه الحالة فليس هناك فقط فصل للنظرية عن التطبيق، وللفهم والنبوءة، بل هناك بالإضافة إلى ذلك إدماج للمفاهيم الأكثر “قابلية لتمثيل” النظرية الماركسية في الإطارات المعدة سلفا لأنظمة التفكير اللاماركسية: الفلسفة التحليلية؛ الفردانية الميثودولوجية؛ الأخلاق الديمقراطية المعاصرة. ونستطيع مع ذلك وبشكل معقول أن نتساءل عن ما سيتبقى من خصوصية الماركسية إذا ما ظلت هذه الأخيرة دائما أكثر تبعية وتوقفا على أعشاشها الإيكولوجية الجديدة.
الكلمات / المفاتيح:
• الماركسية التحليلية: تعني هذه اللفظة تيارا فكريا ظهر في نهاية الثمانينيات بالبلدان الأنجلو سكسونية. ومشروعها يتمثل في تطبيق معايير الفلسفة التحليلية على النظرية الماركسية، أي غربلتها بغربال العلم بتنقيتها من العناصر الإيديولوجية والفلسفية.
وهذا يعني بالنسبة لـ ج. إيلستر، أحد زعماء هذا التيار، التخلص من الشروح الوظيفية النزعة (الدولة أداة في خدمة الطبقة المسيطرة) التي تستدعي منطقا ديالكتيكيا (التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج هو محرك التاريخ)، أو مفاهيم جماعية النزعة (الطبقات متصورة كفاعلين متجانسين واعين). إن منهج الفردانية الميثودولوجية وحده بالنسبة لإيلستر (المنطلق من الأفراد ومنطق أفعالهم) كفيل بالتفسير العلمي للوقائع الاجتماعية.
لقد رام منظرو الماركسية التحليلية إقامة ضرب من التركيب والحوار النقدي في ما بين ماركس ونظرية الألعاب: نظرية العدالة لدى راولس. الوجوه الكبرى والبارزة في الماركسية التحليلية هي: جيري. كوهن “نظرية التاريخ لدى كارل ماركس” (1978)؛ جون إيلستر “عملية إضفاء المعنى في الماركسية” (1985) (الترجمة الفرنسية: “كارل ماركس، تأويل تحليلي” PUF، 1989)؛ إريك. ورايت “طبقات” (1985)؛ جون رومر: “النظرية العامة للاستغلال والطبقات” (1983) و”الماركسية التحليلية” (1986)؛ فيليب فان بارييس “ما هو المجتمع العادل ؟” (1992).
• الفلسفة التحليلية: مدرسة فلسفية ظهرت بإنجلترا خلال الثلاثينيات، وتدعى أيضا فلسفة اللغة، وهي قريبة من المنطق الصوري واللسانيات لدى برتراند راسل، ج. إ. مور ولودفيغ ج. فتجنشتاين، والفلسفة التحليلية ترفض الزعم بمعرفة العالم أو العثور على حقيقة كونية، وهي تهتم بدل ذلك بقضايا اللغة. إن القضايا “التحليلية” هي قضايا منطقية تحمل على اللغة بخلاف القضايا التركيبية التي تحمل على الوقائع. وتحليل القضايا اللسانية يمكن في نظر التيار التحليلي من زيادة المعرفة من خلال توضيح معاني اللغة. والفلسفة التحليلية ممثلة بإنجلترا من طرف “مدرسة أوكسفورد”: جون ل. أوستين (1960-1911)؛ جيلبير ريل (1976-1900)؛ ألفريد جولس آيير (1989-1910).
• نظرية العدالة: نشر سنة 1971، وقد حقق هذا العمل الكبير للفيلسوف الأمريكي جون راولس (المزداد سنة 1921) تأثيرا استثنائيا على الفلسفة الأنجلو سكسونية. وهدف هذه المحاولة الفلسفية السياسية والأخلاقية هو تأسيس عقد اجتماعي عادل، أما منهجه فيتمثل في الانطلاق من وضعية افتراضية يكون فيها أفراد أحرار و وحيدون مكلفون بتحديد قواعد مجتمع قيد البناء مع جهلهم كل شيء عن المكانة التي سيحتلونها في هذا المجتمع. ولأنهم موضوعون هكذا تحت “غشاوة الجهل” فإنهم لن يستطيعوا الاختيار انطلاقا من مصالح خاصة. وانطلاقا من وضعية كهاته استنتج راولس أن كل إنسان سيروم نحث النظام الأكثر عدالة والأكثر إنصافا ما أمكن. ويستجيب هذا النظام لمبدأين اثنين:
1. “مبدأ الحرية” الذي يؤكد المساواة في الحقوق عند التمتع بالحريات الأساسية؛
2. “مبدأ الاختلاف” الذي يتسامح مع الفوارق، لكن في ظل شروط معينة: أن تؤمن المساواة في الحظوظ وأن يجهد المجتمع ذاته ما وسعه الحال في تحسين ظروف الأفراد الأكثر حرمانا وخصاصة.
لقد صيغت العديد من الانتقادات التي وجهت لجون راولس ونظريته في العدالة؛ فعن يساره واخذه الجماعيون على كونه جعل من الفرد القاعدة الأولى للمجتمع وعلى تقليله من شأن دور الخلايا القاعدية الذي تلعبه الجماعات من وجهة نظرهم. وعلى العكس من ذلك واخذه عتاة منظري الليبرالية على كونه برر السياسات الاجتماعية التي تذهب في غير طريق الليبرالية. وقد تشبث راولس بالرد على هذه الانتقادات في “الليبرالية السياسية” (الترجمة الفرنسية بنفس العنوان، 1993).
• نظرية الفعل التواصلي: يشكل هذا العمل المنشور سنة 1981 مآل العمل الذي انصب على “إعادة بناء نقدية للمادية الديالكتيكية” والمنجز من قبل “الوريث الطبيعي” لمدرسة فرانكفورت؛ السوسيولوجي الألماني يورغن هابرماس (المزداد سنة 1929). المساهمة الرئيسية لإعادة البناء هاته تقيم في نقد مفهوم الهيمنة؛ فغياب علاقة الإكراه تفترض قل أي شيء حسب هابرماس “تواصلا بدون إكراه” أو أيضا “وضعية مثلى للكلمة” حيث يقبل الأفراد بإخضاع آرائهم لعمليات حجاج متنافسة. وفي المجتمعات المعاصرة الموسومة بتوسع الإدارة النظامية واقتصاد السوق، فإن الحفاظ على “فضاءات للتفاهم المشترك” (ومن ضمنها العائلة) يشكل حسب هابرماس الوسيلة الأفضل لمقاومة فقدان الأمل.
———————————–
بقلم: جان بودوان (*)
المصدر: مجلة العوم الإنسانية رقم: 63 يوليو 1996
ترجمة: عبد الكريم شوطا (نوفمبر 2005)
(*) أستاذ العلوم السياسية بجامعة رينس ومدير CERAD (مركز الدراسات والبحوث حول الديمقراطية ) مؤلف كتاب ” موت أم انحطاط الماركسية ؟ ” مفاتيح، مونتكريستيان 1991

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى