اللغة والهيْمنيّة الكونية
د. طيب تيزيني
برزت حالة “الكونية” في المراحل التاريخية العالمية، التي هيمنت فيها إمبراطوريات أو مشاريع إمبراطورية، على صُعد متعددة، منها الثقافي والاقتصادي والعسكري. ولم يكن الأمر، في بواكيره، أكثر من مطامح أو مطامع لدى عدد من القوى العالمية، كما كان الأمر قد ظهر مثلاً في بلاد ما بين النهرين وفارس، وكذلك في مقدونيا في عهد الأسكندر الكبير. لكن “مفهوم” الكونية نشأ متأخراً مع تطورين اثنين، هما الفكر السياسي والفكر اللغوي. وقد سار هذان الأخيران في حال من التوازن بينهما، بقدر أو بآخر. وقد يُسجّل نشوء عامل جديد من عوامل تعاظم تلك المطامح أو المطامع على طريق تبلور النزوع الإمبراطوري الكوني في عدد من بلدان العالم، بدءاً من العصور الحديثة وعلى قاطرة المجتمع الجديد الحديث، الرأسمالي الصناعي، نعني تطور المواصلات العالمية.
ها هنا في هذا المجتمع، يُفصح عن نفسه مفهوم “الكونية”، مقترناً بالرغبة الآخذة بالجموح في الوصول إلى بدايات ونهايات العالم. وفي هذا السياق، نشأ مصطلح مركزي ودالٌ على ذلك، هو “المجال الحيوي”. وكان هذا قد راح يفرض نفسه مع شعور سادة الإمبراطورية البريطانية باحتمال أفولها في أوائل القرن العشرين خصوصاً، على عهد بنرْمان رئيس وزرائها في حينه، ثم خصوصاً مع صعود نازية ألمانيا عبر استراتيجيتها، التي خابت حول تأسيسها “إمبراطورية الألف عام”.
كانت اللغات التي تداولتها شعوب الإمبراطوريات المعنية قد شقّت لنفسها طرقاً وطرائق للدخول في صميم مشاريعها الإمبراطورية “الهيمنية”. وقد نرى أن اللغة الإنجليزية كانت الأولى من لغات العالم، التي انخرطت في هذه العملية بكيفية فريدة، خصوصاً في المرحلة العولمية الراهنة. ومعروف أن هذه اللغة انطلقت في القرن الخامس بوصفها تركيباً أو تجميعاً لما كانت تتكلم به ثلاث قبائل، هي الساكسون والإنجليس والجوتيس. وقد عزّز هذه اللغة أنها أصبحت – مع تطورات سيا- اقتصادية لغة مشتركة بين بلدان ودول متعددة، تتضح خصوصاً مع نشأة الولايات المتحدة الأميركية، جنباً إلى جنب مع بريطانيا العظمى.
وإذا ما انطلقنا من تلك الفكرة الأخيرة المقارِنة بين بريطانيا والولايات المتحدة باتجاه المقارنة اللغوية بين مصر وسوريا في القرن التاسع عشر “النهضوي”، فإننا سنضع يدنا على عنصر كبير “وحَّد” بين البلدين الغربيين المذكورين، لكنه غاب في الحالة الثانية بقدر حاسم: كانت بريطانيا الوريثة الشرعية للثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر على أساس العلاقات الرأسمالية الجديدة؛ وسارت في هذا الطريق، لتلتقي عبره بما سينشأ لاحقاً بصيغة الولايات المتحدة الأميركية، التي سارت كذلك على أساس تلك العلاقات.
وانتعشت اللغة الإنجليزية أميركياً، بحيث إن ذلك قاد إلى ما يقترب من “لغة واحدة ولكن مركّبة”. وفي المرحلة الراهنة، العولمية، تكتسب الإنجليزية حالة جديدة تؤدي- حسب “دايفيد كريستال” في محاضرة قدمها ونُشرت في “التايمز” مؤخراً- إلى القول بأنها تقوم على كونها مؤسِّسة لعائلة من اللغات المتعددة كما كان الحال بالنسبة إلى اللاتينية قديماً.
وثمة دراسات حالية يقوم بها جمع من الباحثين في اللغة المذكورة، وفي مستقبلها البعيد، أو ربما القريب، يمكن أن يُفهم مفادها على أساس أن هذا المستقبل لن يخرج من إسار “لغة هجينة قاصرة تحمل وشْمين اثنين ضارَّين، هما توسيع دوائرها الكونية بما قد يُفقدها خصوصيتها البنيوية والوظيفية أولاً، وإيذاء اللغات الوطنية، التي تخضع من طرف تلك وبقوة لاختراقات معْنمية وأسلوبية وقواعدية وغيرها ثانياً”. وفي هذه الحال، قد يصح القول بأنه بدلاً من عملية التضخُّم والتشقُّق التي تعيشها الإنجليزية في عصر العولمة، يمكن إذا ما نُظر إلى مستقبل البشرية الثقافي ومستقبلها هي، أن تحافظ على بنيتها العمومية، لكن مع تطويرها حالئذٍ باتجاه “الآخر”.
إننا إذ نتحدث عن هذا الموضوع، فإننا نعني ضرورة مواجهة خطرين على اللغة العربية: أن تتحول إلى مسرحٍ لإنجليزية عالمية ملفقة، وأن تغدو موئلاً للهجات العربية.
جريدة الاتحاد