صفحات مختارة

ثقافة المحافظة وثقافة التغيير

null
رشيد الحاج صالح
في كل مجتمع، ثمة نوعان من الأيديولوجيات تتقاسم الحياة الثقافية والسياسية.. الأولى أيديولوجيا محافظة سمتها البارزة الدفاع عن الأوضاع القائمة، أيا كانت، ولذلك نجدها تجتهد في تبرير السلبيات وإخفائها من جهة، وفي تضخيم الإيجابيات والتطبيل لها من جهة أخرى.. وهذه أيديولوجية الفئات المسيطرة ذات النفوذ، سواء أكانت فئات سياسية أم دينية أم عشائرية.
كما أن هذه الفئات عندما تتبنى ثقافة المحافظة على الوضع السائد، فإنها في حقيقة الأمر تدافع عن مصالحها ومصادر قوتها والمزايا التي تتمتع بها، ولذلك فإنها تنظر إلى قوى الإصلاح والتغيير على أنها حركات، إما فوضوية أو «مرتبطة بالخارج»، وفي أحسن الأحوال حركات تتبنى أفكارا لا تناسب مجتمعاتنا وقيمنا.
أما الثانية، فهي أيديولوجية نقدية تسعى إلى تغيير الأوضاع السائدة وإصلاحها، مركزة في الغالب، على السلبيات والمفاسد الموجودة في المجتمع. وهذه أيديولوجية الفئات التي تسعى الى تحسين أوضاعها ومراكزها السياسية والقوى التي تتطلع للمزيد من النفوذ.
والخلاف بين الفئات المحافظة والفئات التغييرية لا يعود، كما تظن الغالبية، الى خلاف في الأفكار والرؤى، أو تباين في العقائد ووجهات النظر، بقدر ما يعود إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تنتمي إليها كل فئة من تلك الفئات. فالفلاح يتبنى في الغالب أيديولوجية نقدية تسعى إلى تغيير أوضاعه وتخلصه من حالة الفقر والعوز. أما رجل الدين، فإن انتماءه لأي من الأيديولوجيتين يقع بحسب مصالحه والموقع الذي يحتله في المجتمع.. فهو إذا انتمى إلى الفئات المسيطرة، تبنى أيديولوجية محافظة تؤكد على الطاعة والصبر.. وإذا انتمى إلى الفئات المتطلعة إلى تغيير أوضاعها، تبنى ثقافة تدعو إلى التغيير والإصلاح، وقد يصل به الأمر إلى تبني ثقافة التغيير الجذري، وقلب ما هو قائم رأسا على عقب.
وهذا يعني في الإجمال أن أي فكر يمكن أن يكون محافظا، ويمكن أن يكون نقديا، وذلك بحسب الموقع الذي يحتله مؤيدو ذلك الفكر، والأهداف التي وضعوها لأنفسهم. وهذا الأمر ينطبق على كل أشكال الفكر سواء أكان دينيا أم قوميا، أم ليبراليا، أم ماركسيا.. ألخ.. ويفسر كارل مانهايم هذا الأمر بأن أي فكر نقدي تغييري سرعان ما يتحول إلى فكر محافظ عندما تستقر الأمور له، وذلك للمحافظة على المكاسب الجديدة التي حصل عليها.
وتعد هذه المشكلة، أي تحول الفئات التغييرية إلى فئات محافظة تقف في وجه، أي تغيير عندما تستقر الأمور لها، تعد من المشكلات الكبرى التي عانت منها الشعوب في تاريخها الطويل، وإحدى المشكلات العويصة التي تواجهنا اليوم، سواء في حياتنا السياسية أم الدينية.
وحل هذه المشكلة يتم بتبني كل فئة من الفئات مصالح الكل الاجتماعي، والتعالي على مصالحها وامتيازاتها الجزئية، بحيث يرتقي وعي هذه الفئات لذاتها من وعي جزئي يهتم بمصالح الفئة، إلى وعي كلي يدرك تطلعات ومصالح كل الفئات، بحيث يدافع الجميع عن الجميع، الأمر الذي يؤدي إلى ذوبان الامتيازات والمصالح الفئوية في معادلة الحقوق والواجبات التي تحكم المجتمع وتسمو به.
كاتب من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى