الفرد العربي الغائب
خالد غزال
شكل التأسيس للفرد المواطن الحر، أحد الشروط التاريخية التي قامت عليها الحضارة الغربية الحديثة منذ عهد الأنوار، كما شكل أيضا الأساس لشرعية السلطة والدعامة الرئيسة لقيام الديمقراطية ونهوضها. لم يكن لهذا الإنجاز أن يتحقق لولا قيام الدولة/ الأمة، وفصل المجال الديني عن السياسي، بما نقل انتماء الإنسان من الجماعات الخاصة من قبلية وعشائرية وطائفية إلى الدولة. في رحاب هذا التحول وعلى أساسه، قامت نظرية الحقوق، ونشأت نظرية المواطنية.
يثير واقع العالم العربي مسألة تتصل بدور الفرد وجودا مستقلا، وموقعا فاعلا في المجتمع من الزوايا المتعددة الجوانب. تقدم المجتمعات صورة سلبية عن الفرد فيها، بحيث تتعدد العقبات التي تمنع تكونه على غرار ما شهدته أوروبا منذ ثلاثة قرون.
أول العقبات التي تتسبب في غياب المواطن/ الفرد عن الفعل في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعن تهميش دوره، إنما تعود الى طبيعة الأنظمة السياسية السائدة في العالم العربي. لا تزال هذه الأنظمة منذ تكونها تضمر نظرة معادية لقيم الديمقراطية ومقولاتها، والتي في رحابها يتكون هذا الفرد. تسود أنظمة يغلب عليها الطابع الاستبدادي، تتجمع فيها السلطة في يد فرد، أو مجموعة خاصة، فيتلاعب الحكام بالدساتير والقوانين، وتنتهك النصوص القائلة بحق الشعوب في المشاركة، كما يلغى تداول السلطة والاحتكام الى المؤسسات. وتمثل سياسة السلطات تجاه الحريات العامة أخطر العقبات في وجه الفرد العربي، حيث يجري تقييد الحريات السياسية، وتنتهك حقوق الإنسان والمواطن، وتمنع الأحزاب المعارضة للسلطة من العمل، أو يجري تقييد ممارستها، وتكمم الأفواه المخالفة « وتزدهر» السجون بمعتقلي الرأي والاعتراض.
عقبة ثانية في وجه قيام الفرد تعود إلى الثقافة السياسية السائدة سابقا وحاليا. تتحمل الأيديولوجيات التي عرفها الفكر السياسي العربي مسؤولية كبيرة في تهميش دور الفرد وحتى إلغائه. عرف العالم العربي ثلاثة أنواع رئيسة من منظومات الفكر المهيمن، وهي القومية والاشتراكية والأصولية. تتشارك هذه المنظومات بنظرة إلى الفرد تلغي خصوصيته، وتدفع به إلى الذوبان والتماهي مع الجماعة التي ينتسب إليها تحت عنوان التضحية في سبيل القضية العامة، وفقا لما هي محددة لدى كل فئة. يؤدي هذا التماهي إلى ولادة قوالب فكرية تأسر الفرد في داخلها، وتفرض عليه إخضاع تحليلاته وآرائه وفق المفاهيم الفكرية المحددة. يفاقم من الأمر أن هذه الأيديولوجيات التي سادت تحمل فكرا شموليا ينطلق من اعتبار أنه يملك الحقيقة، وأن منظومته تشكل خلاص البشرية، وأن قيمه هي الصحيحة. نجم عن هذه النظرة تحول هذه النظريات إلى عقائد جامدة كان أهم نتائجها رفض الآخر وإلغاءه وقهره عندما تتمكن من السلطة.
عقبة ثالثة تعود إلى فشل الدولة العربية في تحقيق الحدود الدنيا مما وعدت به الإنسان العربي من تقدم اجتماعي ونهوض اقتصادي وتحقيق للديمقراطية وإنجاز التحرر القومي، وهي مسائل شكلت أساس مشروع التحديث الذي تمثلته أنظمة الاستقلال من الخمسينيات.
قدمت حصيلة السياسات العربية في مجال التنمية فشلا في نهوض المجتمعات العربية وخروجا من التخلف المقيمة فيه منذ عقود، على رغم الموارد المادية والبشرية التي تملكها. أبرز نتائج هذه السياسات أن العالم العربي يتجلبب اليوم بمثلث الفقر والبطالة والأمية على السواء.
يضم العالم العربي أكبر نسبة من العاطلين عن العمل، ومن الأميين الذين يتجاوزون 70 مليون إنسان والفقر الذي يعيش غالبية السكان العرب في ظله، بل تحت خطه المحدد دوليا.
لا تزدهر أفكار الديمقراطية والحرية والاستقلال الفردي في ظل هذه المعطيات، بل على العكس تشكل هذه الوقائع سندا للديكتاتوريات ولأنظمة الاستبداد.
عقبة خامسة تتصل بالهزائم المتوالية التي مني بها العالم العربي، خصوصا أمام العدو القومي، وهي هزائم لعبت دورا سلبيا وخطرا في غياب ونهوض الفرد. من هزيمة 1948 وولادة دولة إسرائيل، إلى هزيمة يونيو 1967، الى الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، الى مغامرات الاجتياح للكويت، وما تبعها من حرب الخليج الأولى، ثم الثانية التي أعادت الاستعمار العسكري إلى العالم العربي.
هذه العقبات بتفاعلها وتواترها أنتجت أخطر العقبات التي منعت، وتمنع اليوم تكون الفرد المواطن الحر في العالم العربي. هذا التراكم يتسبب اليوم في انهيار متوال لبنى الدولة العربية لحساب البنى القبلية والعشائرية والطائفية، لتشكل الموقع العام مقابل الموقع الخاص لا تبدو المجتمعات العربية سائرة في طريق يتيح تكوينا حرا للفرد/المواطن، بل إن الأخطر هو أن يستمر زحف الجماعات الخاصة على كل ما هو عام ومشترك، ولاسيما أن المشهد العربي يقدم كل يوم دليلا على تراجع الدولة لمصلحة الجماعات التي يفترض أنه قد تم تجاوزها منذ عقود.
كاتب من لبنان