نحو قراءة تاريخية للواقع الحضاري للمدينة العربية الإسلامية
كرم الحلو
إحدى المشكلات التي لم تعالج كفاية في الفكر العربي الإسلامي، علاقة المدينة بالدولة، وبمعنى أدق تقاسم سلطة الرقابة في المدينة بين حكم الفقهاء والدولة، والتناقض التاريخي بين حكم الشرع وسلطة السياسة. هذا التناقض الذي اتخذ أشكالاً مختلفة من الصراع، والذي تمثّل بالدعوات المتكررة الى إعادة إحياء حكم الشرع الى الفضاء المديني، قد تحوّل الى توتر ينذر بصراعات متمادية.
على خلفية هذا الإشكال التاريخي المربك والمتجدّد يمثّل كتاب خالد زيادة “الخسيس والنفيس، الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية” محاولة جادة لإعادة النظر في مسائل السلطة والمجتمع في المدينة الإسلامية، وعلى رأسها مسألة انتصار الدولة في الفضاء الإسلامي على المدينة وإزاحتها حكم الفقهاء.
يبدأ المؤلف من “الرقابة والمدينة” حيث الرقابة على الأسواق باعتبارها المكان المشترك للجمع والإرتزاق، الحيّز الأهم من أعمال الفقهاء. وتنصرف الرقابة على تأمين العبور في الشوارع والطرقات والأسواق بدون عوائق أو موانع، كما تشمل أهل المهن والصناعات لجهة الغش والتسعير والاحتكار، وكذلك دور الفجور والحمامات.
كانت الرقابة بأيدي “المحتسب” الذي يراقب الأسواق والمساجد والحمّامات ويمنع المنكرات، إلا أن ثمة أمكنة أخرى اختص بشؤونها “صاحب الشرطة” أو “صاحب العسس” منها حراسة أسوار المدينة في الليل وتفقدها وإصلاحها وحراسة البوابات ومساعدة أصحاب الخراج في استيفاء مال الفيء. وكان صاحب الشرطة يعيّن في العصر العباسي من جانب الخليفة والسلاطين أو الولاة في الأقاليم، وعلى هذا النحو فإن ارتباطه المباشر كان بالحكام وأرباب السياسة. وإذا كان ثمة تداخل في المهام بين صاحب الشرطة والمحتسب، إلا أن الاختلاف بين عمل كل منهما يعود الى مرجعيتين مختلفتين على الرغم من أن المدينة هي المكان المشترك لكليهما. وهكذا تكون قد تنازعت المدينة الإسلامية سلطتان: سلطة الشرع ممثّلة بالقاضي والمحتسب، وسلطة السياسة ممثّلة بالحاكم وصاحب الشرطة. لكن المحتسب لم يكن يملك سوى الوعظ والنهي والزجر، بينما كانت لصاحب الشرطة كل الصلاحيات المتعلقة بالأمن وتنفيذ الأحكام.
وبالنظر الى الفئات الاجتماعية المشكّلة للمدينة الإسلامية رأى المؤلف أن انقسام هذه المدينة الى أغنياء وفقراء كان أمراً قائماً بمعزل عن كل تمييز عرقي أو ديني، كما أن الغنى لم يكن شرطاً ملازماً للارتقاء الى مستوى الفئات العليا. ويمكن أن نميّز في المدينة الإسلامية الكلاسيكية فئات عدة نُظر إليها نظرة احتقار واعتبر أفرادها على جانب من الخسّة والوضاعة والرذالة. من هذه الفئات أصحاب المهن الوضيعة كالحمالين والدباغين والزبالين والقصّابين والحطّابين والنخاسين ومؤدّبي الصبيان. ومنها المكتسبون والمتسولون والبطالون كلاعبي النرد وشاربي الخمر واللوطيين والمخنثين، إضافة الى أهل البلايا والعاهات كالمجذوم والأبرص، وقد منعا من السير في الأسواق أو دخول المساجد والحمامات.
في المقابل، ثمة ثلاث فئات تحتل موقعاً مميّزاً في المدينة الإسلامية:
أ ـ رجال السلطة كالخليفة أو السلطان وأمراء جند الأطراف والثغور والقضاة والمحتسبين وآل البيت من الشرفاء. ب ـ رجال الدين من فقهاء وأئمة مساجد. ج ـ التجار وخصوصاً تجار السلع النادرة.
في موضوع اللهو في المدينة العربية الإسلامية استنتج المؤلف أن الرسائل الخاصة بالحسبة تشكّل مدخلاً للولوج في عالم المدينة بوجهيه الصارم واللاهي. فكثرة الموانع توحي بوفرة النشاط الذي يوجب المراقبة والمنع، وقد طالت الموانع سماع الغناء والرقص والتصفيق واللعب بالبهائم، كاللعب بالحمام والدجاج.
كانت الأعياد الإسلامية مناسبات للهو واللعب بالنسبة للأطفال، وبالنسبة للبالغين مناسبات للتصدّق على الفقراء وأداء الزكاة. أما الأعياد غير الإسلامية فكانت مناسبات للهو والهذر وقد اندفع المسلمون لإحياء هذه المناسبات وكأنها خاصتهم. ومن هذه الأعياد أحد الشعانين في بغداد وعيد الغطاس في مصر، وعيد النيروز، وكان من أكبر الأعياد الفارسية التي جعلها المسلمون خاصتهم، إلا أنه مُنع الاحتفال بهذه الأعياد فيما بعد في عهود متعاقبة.
وإزاء هذه الأعياد التي كانت تحتفل بها العامة، كان للخاصة أشكال لهوها ومناسباتها، من السلاطين الى الأمراء الى الأعيان والعلماء. فالظاهر بيبرس أقام احتفالاً جماعياً بمناسبة ختان ولده السعيد محمد. وكان يُفرض الفرح العام في المناسبات الخاصة بالسلاطين، فعند صعود السلطان سليمان الى العرش زُيّنت القاهرة زينة حافلة، كما زُيّنت أيضاً سبعة أيام متتالية عند انتصاره على الإفرنج. وفي المقابل كان يتم الانتقام من أرباب اللهو عند وقوع بلاء كالهزيمة أو الطاعون.
بصورة عامة كانت المدينة الإسلامية تطرد اللهو الى خارجها وتتحفّظ عليه في داخلها، فبغداد في عصرها الذهبي جعلت كل ما يتصل بعادات اللهو، في البساتين المحيطة بها وخارج أسواقها بعيداً عن رقابة المحتسبين، وحذت حذوها سائر المدن، حتى أن الاحتفال بقدوم شهر الصيام كان يجري خارج المدينة على غرار كل المناسبات اللاهية.
واحتفل أهل الطرق الصوفية بمناسباتهم داخل المدينة إلا أن الخارج كان يجذبهم أيضاً، كما الفقهاء والعلماء الشيوخ الذين كانوا يلتمسون الأمكنة الهادئة والبعيدة عن ضوضاء الناس للتنزّه والترويح عن النفس. وكذلك كانت الطوائف الحرفية تقيم مراسم “الشد” الخاصة بترقية المتعلمين في الحرفة في أماكن خارج المدينة.
أما في داخل المدينة فكان اللهو يُعزل في أماكن مغلقة أبرزها الحمامات وبيوت القهوة، ومن هنا تشدّد الفقهاء في الأحكام الخاصة بها. وفي كتب الحسبة لا نجد ذكراً لأرباب اللهو بين أصحاب الصناعات وقد وُصف أغلب أصحاب هذه المهن بالخسة والدناءة. وعلى نحو عام فإن المدينة العربية الإسلامية تركت مهن اللهو للهامشيين والغرباء والضعفاء وذوي العاهات والنقائص ووسمتهم بالدناءة.
في رصد علاقة الدولة بالمجتمع المديني في التاريخ العربي الإسلامي حاول المؤلف استكشاف الأسس التي وضعت الدولة في تناقض مع المجتمع المديني في التجربة العربية الإسلامية، والأسباب التي أدت الى التسلّط الراهن على المجتمع، فرأى أن النظام الديني احتفظ باستقلاله عن النظام السياسي. فالمدينة خضعت لسلطة الفقهاء في الميراث وتنظيم العمل في الأسواق وفي تنظيم شؤون الجماعات الدينية، أما الدولة فقد اعتمدت على كتّابها ذوي الأصول الفارسية الذين صاغوا قوانينها ومؤسساتها الضريبية والبريدية والعسكرية. وما انفك انفصال الدولة عن المدينة والمجتمع المديني يشق طريقه في نموذج الدولة العسكرية في عصور متأخرة وبشكل خاص مع المماليك 1250 ـ 1516 حيث بدت الدولة تبعاً للمقريزي جسماً طافياً فوق مجتمع يدبّر شؤونه من خلال قياداته الأهلية، وبات الحيّز الذي تشغله في حياة المدينة بل في حياة الأفراد جزئياً وجانبياً.
في هذا الإطار تتحدّد الإشكالية العميقة للنظرية السياسية الإسلامية بين إعطاء السلطان السلطة المطلقة، وبين تقييدها بحدود الشرع، وقد بيّنت الأعمال التي تنتمي الى التجربتين المملوكية والعثمانية التوازي بين السياسة والشريعة، حيث حماة الشريعة هم الملوك والأمراء وحفّاظها هم الأئمة والعلماء. من هذا القبيل كان تنبيه العلماء الى مفاسد النظام المملوكي واقتراح برامج إصلاح. ومن هؤلاء تاج الدين السبكي 1369م ومحمد بن خليل الأسدي 1450م وتقي الدين المقريزي 1441م، وقد أرجعوا أسباب الفساد الى سوء الإدارة والسلطة. وإزاء التدهور في أوصال الدولة العثمانية تصدّى العديد من الكتاب العثمانيين للأسباب التي أدت الى اختلال النظام العسكري وهجرة الفلاحين وارتفاع الضرائب وفقر الخزينة.
لكن مقاربة مسألة الفساد والإصلاح في التجربة التاريخية العربية الإسلامية ظلّت قاصرة لأن الفقهاء حالوا دون جعل الاحتساب مؤسسة حصرية للرقابة، باعتبارهم كل مسلم محتسباً، كما قدموا تماسك النظام الاجتماعي ووحدته على نقد السلطة السياسية ومساءلتها، ولم تتعدّ الحلول التي اقترحوها استثارة الجانب الصالح والأخلاقي في الحكّام.
في نظرة نقدية ختامية يمكن القول إن الكتاب على الرغم من ميله الى الاستغراق في المنحى السردي التاريخي على حساب الالتزام المنهجي، وضياع البعد الإيديولوجي الناظم للمقدمات والاستنتاجات، وإن لجهة اللغة الملتبسة والألفاظ الغريبة أحياناً، قد أضاء إضاءة مهمة على الواقع الإنساني والحضاري للمدينة العربية الإسلامية وطبيعة القوى الاجتماعية الفاعلة في داخلها، وتفاعل هذه القوى في ما بينها، ما شكّل في حد ذاته تقدّماً في فهم التطوّر التاريخي للدولة العربية الإسلامية وانفصالها عن المجتمع وتعاليها عليه، وصولاً الى واقعها التسلّطي الراهن. إلا أن المؤلف ظل بعيداً عن مقاربة بعض الإشكالات المؤسسة للاستبداد في السياسة العربية، مكتفياً بالتنبيه الى اتساع الشقة بين السياسة والشريعة مع المماليك والعثمانيين، وهذا ما أفاضت به مقاربات عربية، لعل أبرزها مقاربات محمد أركون ومحمد عابد الجابري ومحمد جابر الأنصاري. وهكذا ظل أكثر من سؤال في عداد المسكوت عنه. فهل ثمة ما يشكّل أرضية مؤاتية للاستبداد في “العقل السياسي العربي” من منظور الجابري أو في “العقل الدوغمائي الفقهي” من منظور محمد أركون أو في “الواقع الجغرافي العربي” من منظور الأنصاري؟ وهل الاستبداد مسألة مستجدّة على السياسة العربية مع الغزو المملوكي ثم العثماني؟ أليس في روح القبيلة والعصبيّات القبلية التي استمرت بشكل وبآخر بعد الإسلام، ما عمل على توطيد إرث الاستبداد في تاريخنا؟ أليس في اجتهاد الفقهاء بطاعة المستبدّ حرصاً على وحدة الأمة تبرير للاستبداد وتماديه في الفضاء السياسي العربي؟ وهل المدينة العربية الإسلامية، بكل ما عرفته من انقسامات اجتماعية وإنسانية حادة، كانت فعلاً في منأى عن الصراع الطبقي أو الانقسامات الطبقية؟
المستقبل