الانغلاق والانفتاح الخاطئ يناهضان الإبداع في الثقافة العربية
خالد غزال
يرى بعض العاملين في مجال الفكر والثقافة ان الثقافة العربية تعاني منذ فترة ضموراً في الإبداع في ميادين الفكر والعلم. ويطاول هذا الضمور معظم التيارات الفكرية والرموز التي تعبّر عنها. ولا يتم الاعتراف بهذا «النقص» والخلل، فيما نشهد ادعاءات تجابي هذا الحكم ويقول بها اكثر من صاحب اتجاه فكري.
يخصص الكاتب الجزائري عبدالله البريدي بحثاً خاصاً قصره على السلفية والليبرالية بصفتهما اتجاهين فكريين يدعي كل منهما أنه يجسد طريق الخلاص وسبيل النهوض ومبعث الإبداع. صدر الكتاب بعنوان «السلفية والليبرالية، اغتيال الإبداع في ثقافتنا العربية»، عن المركز الثقافي العربي.
يركز البريدي على محورين أساسيين، الأول مقاربة السلفية والليبرالية وتحديد معالمهما، والثاني معالجة الأسباب التي جعلت هذين التيارين معوقين للإبداع.
تدعي السلفية انها «الدين» الصحيح الموافق للكتاب والسنّة والسلف الصالح. وإذا كان الإسلام عرف وجود 72 فرقة بينها فرقة واحدة ناجية وسائر الفرق الى النار، فإن السلفية ترى في نفسها هذه «الفرقة الناجية». وفي هذا المجال تشدد السلفية على انها الفرقة التي «لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها»، واذا كان هناك من خطأ فهو من مسؤولية بعض الأتباع أو من «أدعياء السلفية» وليس من فكرها أو منهجها.
وبسبب هذه الوثوقية من علمها وشموليتها، تطلق السلفية تصنيفات تختزل فيها المواقف الى من هو «سلفي» و «غير سلفي»، وتحاسب البشر استناداً الى هذا الانتماء. وبسبب هذا التشدد في التصنيف تتغاضى السلفية بل تتجاهل حقائق تاريخية ترى ان الإسلام لم يكن ديناً مغلقاً، بل انه اتى بشعائر وعبادات وأحكام ومعاملات تحوي حدوداً دنيا وحدوداً قصوى بما يسمح للفقيه بمراعاة الظروف والوقائع الحياتية في تطبيق النص الديني.
تمثل الليبرالية وجهاً شبه مناقض للاتجاه السلفي، فهي انبثقت من الثقافة الغربية وبالتحديد من أطروحة «الإنسانية» التي خاضت معركة منذ مطالع القرن السادس عشر ضد الكنيسة وتسلطها وتحكمها بمصائر الناس ومعاشهم. شكلت هذه المعركة بواكير النهضة الأوروبية التي شهدت توسعاً في القرون التي تلت.
مآخذ على الليبرالية
عارضت الليبرالية الحكم المطلق وطالبت بإقامة الحكم الدستوري المستند الى سلطة الشعب والانتخابات البرلمانية الدورية وتداول السلطة. انطوت الليبرالية على مفاهيم وقيم لا تزال تشكل أهدافاً لمجمل شعوب العالم مثل الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والتسامح والتعددية الفكرية والمشاركة السياسية، وهي قيم اختصرها مفهوم الديموقراطية الذي توسع لاحقاً بحيث اشتمل على الليبرالية وغيرها من المفاهيم.
يؤخذ على الليبرالية انها تحوي قدراً كبيراً من الغموض والالتباسات والتناقضات. فهي تغالي في إعطاء حيز كبير للبعد «الفرداني» على حساب الجماعة، وهي مرتبكة في الميدان الاقتصادي بين رفض مطلق لتدخل الدولة استناداً الى المقولة الرئيسة التي قامت عليها، اي «دعه يعمل، دعه يمر»، وحاجة حقيقية لتدخل الدولة للحد من انفلات السوق ولتحقيق حد من العدالة الاجتماعية. وليس أدل على هذا التناقض من تناحر الليبراليات في كل مكان وتنوع أو تعدد مفاهيمها وأفكارها. ولا يخلو العالم العربي من هذا التناحر بين الليبراليات خصوصاً عندما تعبّر عن نفسها في انتماء سياسي سواء كان داخلياً أم خارجياً.
يطرح الكاتب سؤالاً يتناول الإعاقات التي منعت الإبداع في عالمنا العربي انطلاقاً من قراءته لليبرالية والسلفية ويخرج بحكم يحمّل الاتجاهين الفكريين – السياسيين المسؤولية عن هذا «القحط» الذي تقيم فيه المجتمعات العربية.
ويشير الى ان السلفية منذ بواكير النهضة العربية والإسلامية في نهايات القرن التاسع عشر جهدت للحيلولة دون الانفتاح على الثقافات الأخرى بحجة ان ما لدينا من رصيد معرفي وفكري كاف للإجابة عن كل القضايا. إضافة الى ان السلفية عجزت عن تجاوز «الوعظ النهضوي» الذي ظل يركز على مقولة محورية عمادها «الرجوع الى الدين». وتعود الإعاقة الإبداعية لدى السلفية الى»العقل» الذي فشل من الإفادة من الاتساع الهائل للفقه الإسلامي مما جعله «عقلاً استرجاعياً» لا «عقلاً توليدياً».
في المقابل، يسجل للفكر الليبرالي انه قام في الفترة المبكرة من النهضة العربية بجهود كبيرة في نقل الأفكار والإفادة من ثقافة الآخر خصوصاً الغربي منها، ومن خبراته في مجالات الفلسفة والعلوم والإدارة والاقتصـــاد والتقنـــية والشــؤون العســـكــرية. لكن الليبرالية غالت في مجال النقل والاقتباس، فلم تفرق بين ما يسوغ نقله وما لا يسوغ، مما جعلها في قفص الاتهام بأنها همشت التراث العربي والإسلامي الى حدود القطيعة معه. وهو شأن جعل هذا العقل مستسلماً أمام النتاج الغربي وفق تطبيقاته الإنسانية في المجتمعات الغربــية فكــرياً وسياسيـــاً، وتضخيمه لهذه التجربة التي رأى فيها تمثيلاً للكمال المطلق.
يسجل الكاتب حكماً على العقلين متهماً اياهما بالفشل في تطوير طرائق التفكير والإدارة وفي العجز عن ابتكار أدوات منهجية وتشخيصية جديدة، وقد اخفقا في إبداع نظريات ونماذج ومصطلحات جديدة في مختلف الحقول المعرفية .
يعود هذا العجز الى إقامة العقلين في التقليد واجترار مقولات لا تجيب عن متطلبات الواقع العربي، سواء بالإصرار على البقاء في الماضي بحسب السلفية، أو بالهروب الى الأمام واستحضار مقولات لا تتناسب مع واقعنا منقولة من تجارب أخرى كما هي حال الليبرالية.
يبدو ان الخروج من المأزق ينطلق من نقد العقل السائد في كل مدارسه الفكرية والسياسية، وبالانفتاح على الآخر بما هو حضارة وعلم من أي مصدر أتى، إضافة الى العودة الى التراث وأخذ ما هو حي فيه والتخلي عما تجاوزه الزمن، وهي أمور تترافق مع تخطي القيود والأنماط الجامدة التي لا تزال تأسر الإنسان العربي.
الحياة – 11/07/08