“الصحوة” الدينية… ومفهوم المواطَنة!
محمد السماك
علاقة الدين والدولة موضوع يفرض اليوم نفسه مادة للبحث والنقاش دينياً وسياسياً وثقافياً. وذلك نتيجة لصعود الأصولية في مختلف الأديان والعقائد، ولارتفاع حدة التوترات الدينية، وفوق ذلك كله لتأصله في بنية المجتمعات الشرقية وفي ثقافتها وهويتها.
واليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين يبدو ظاهرياً أن مفكري العالم مشغولون ببلورة مفهوم جديد للمواطَنة، بحيث يتعدى هذا المفهوم الولاء الديني والمذهبي، كما يتعدَّى مفاهيم المواطَنة التي سادت منذ القرن التاسع عشر، والتي قامت على الولاء القومي والوطني. والحال أن مفهوماً جديداً للمواطَنة عابراً للقوميات والأديان يفرض البحث فيه اليوم.
فمنذ أن قال الفيلسوف الفرنسي “مارلو” إن القرن الحادي والعشرين يكون دينياً، أو لا يكون، ارتسمت في سماء الفكر الاجتماعي الديني والمدني علامات استفهام كبيرة حول تفسير ظاهرة العودة إلى الدين، أو ما يسمى بـ”الصحوة الدينية”. وحول معنى الأصولية الدينية وتناميها في مجتمعات غير شرقية، بل وموغلة في العلمنة والحداثة:
أولاً، في الولايات المتحدة: تقول المادة الأولى من الدستور الأميركي بفصل الدين عن الدولة. ومع ذلك فإن جلسات الكونجرس تفتتح دائماً وحكماً بصلاة “الله يحمي أميركا”. والتي تتضمن عبارات من الإنجيل. وكان قد عرض مؤخراً أمام الكونجرس مشروع قانون ينصُّ على أن يخصص الشعب الأميركي يوماً في العام للصلاة والصوم من أجل التقرب إلى الله؛ والمشروع الذي كان يحتاج إلى أكثرية ثلثي الأعضاء سقط بأقلية ضئيلة جداً. غير أن عدداً من الولايات الأميركية أقرّ فرض عدم دراسة نظرية النشوء والارتقاء لداروين في المدارس والاكتفاء بنظرية الخلق كما وردت في الكتاب المقدس، “العهد القديم”. كذلك أقرّ الكونجرس قانوناً يسمح بتعليق نصّ “الوصايا العشر” على جدران المدارس الحكومية. ومنذ عام 1996 وعملاً بقانون اتحادي جديد، أصبح لزاماً على الدولة الاتحادية أن تقدم مساعدة مالية دعماً للمدارس التابعة للكنائس أو للجمعيات الدينية الأخرى مقابل كل طالب يلتحق بها. ومنذ عام 1864 تحمل العملة الأميركية عبارة “إننا نثق بالله”. وفي عام 1955 بدأ نقش هذه العبارة على كل وحدات النقد الأميركي. وتتناقض هذه الوقائع مع مقتضيات النظام الاجتماعي الذي يقوم على أساس أنه “لا يوجد دين للدولة في الولايات المتحدة”.
ومما يعزز هذا التناقض ويؤكده، البعد الديني للسياسة الخارجية الأميركية، ذلك أن ثمة قوى دينية قائمة على أساس نظرية العودة الثانية للمسيح تفرض بصماتها بقوة على صناعة القرار السياسي الأميركي. وتكفي الإشارة هنا إلى ما ورد في كتاب “النبوءة والسياسة” للكاتبة الأميركية غريس هالسل (كانت تحرر نصوص خطابات الرئيس الأسبق ليندون جونسون) من أنه في كل مرة تطرح قضية أساسية تتعلق بالشرق الأوسط أمام مجلس الأمن القومي الأميركي، كانت تُدعى إلى حضور اجتماع المجلس شخصيات دينية إنجيلية للمشاركة في صنع القرارات، بحيث تتوافق مع النبوءات الدينية الواردة في العهد القديم -سفرا حزقيال ويوحنا تحديداً.
ثانياً، في أوروبا الغربية التي بدأت تشهد انبعاثاً للعصبية أو للعصبوية الدينية من جديد ليس من منطلق روحي إيماني، وإنما من منطلق ردّ الفعل على تنامي الحضور الإسلامي في معظم هذه الدول. لقد سقط مشروع الدستور الأوروبي الموحد في الاستفتاء الذي أجري في فرنسا وهولندا، ثم سُحب كلياً من التداول بعد أن رفض واضعو المشروع أي إشارة إلى البعد المسيحي في الثقافة أو في الشخصية الأوروبية خلافاً لنداءات البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. والآن أسقطت ايرلندا في استفتاء عام وثيقة برشلونة الجديدة. وعلى رغم ذلك يحاول البابا الجديد بنديكتوس السادس عشر “إعادة المسيحية إلى أوروبا وإعادة أوروبا إلى المسيحية”. ومن أجل بلوغ هذا الهدف تنتشر الإسلاموفوبيا وتتأصَّل، ومن ثم توظف في عملية العودة والإعادة. والنتيجة أن أوروبا بدأت تتخلى تدريجياً عن علمانيتها بعد أن كان بعض دولها حظر حتى على رجل الدين التجوّل في الشوارع بملابسه الدينية. أما الآن فان رجال الدين بدأوا في استعادة مواقعهم في المجتمعات وممارسة نفوذهم حتى على صناعة القرار السياسي. والواقع أن تواجد جاليات إسلامية كبيرة ومتنامية وسط هذه المجتمعات متمسكة بالدين تعبداً وسلوكاً اجتماعياً، يشكل في حد ذاته تحديّاً لعلمانية المجتمعات الأوروبية، كما يشكل تحريضاً للمؤسسة الدينية فيها للتحرك من جديد، وهو ما يقوم به مجلس أساقفة أوروبا. ثم إن المسيحية هي في حال توسع وانتشار في دول العالم الثالث وخاصة في آسيا وأفريقيا. حيث إن لهذا الانتشار آثاره المباشرة وغير المباشرة على علاقة الدولة بالدين (السودان ونيجيريا وحتى اندونيسيا كنماذج). فالكنيسة المشيخية مثلاً لها من الأتباع في كوريا الجنوبية أكثر مما لها في مسقط رأسها في الولايات المتحدة مثلاً.
ثالثاً، في العالم العربي: هنا تبرز عوامل عديدة متداخلة تفرض موضوع الربط بين الدين والدولة، ومنها:
– تراجع المدّ القومي وانحسار الطموحات الوحدوية العربية، خاصة بعد الهزيمة التي منيت بها الدول العربية في يونيو 1967. فكانت هزيمة للنظام السياسي العربي القومي. وأطلقت تلك الهزيمة موجة رد الفعل الإسلامي الذي ظلّ يتنامى ويتغذى من تعثر الأنظمة العربية في معالجة القضايا الوطنية والاجتماعية. وقد عزز من هذه الانطلاقة التوظيف الديني اليهودي لانتصار إسرائيل العسكري، فقد صُوِّر الانتصار وكأنه انتصار “إلهي” يؤكد نظرية أن اليهود هم “شعب الله المختار”!.
– مع تعثر الدولة القُطرية- الوطنية في تطبيق الديمقراطية واحترام الحريات العامة والخاصة، ارتفع المدّ الأصولي بما يتسم به من تطرف ومن فكر متشدد رافض وحتى إلغائي للآخر المختلف.
– تصاعد موجات التخويف الديني من ثقافة العولمة واعتبارها ثقافة تغريبية في حد ذاتها، وتالياً ثقافة معادية للإسلام كدين. وأما في المجتمعات الإسلامية فإن أول علامة استفهام يطرحها ربط الدين بالدولة أو ربط الدولة بالدين، ترتسم حول الآثار التي يرتبها ذلك على صيغة العيش المشترك في المجتمعات المتعددة الأديان والمذاهب. فالمخاوف من إعادة إحياء مفاهيم الجزية وأهل الذمة سرعان ما تطفو على سطح فكر المسيحيين العرب من جديد. كما أن ثمة علامة استفهام أخرى لا تقلّ حساسية يطرحها هذا الربط تتعلق بصيغة العيش المشترك بين المسلمين أنفسهم، ليس فقط من أتباع المذاهب المختلفة، بل حتى بين المسلمين من أهل المذهب الواحد (العراق نموذجاً).
إن القصد من وراء ذلك هو إثارة إشكالية حول ما إذا كان بالإمكان طرح مفهوم للمواطَنة يقوم على أساس التوفيق بين مجتمع مؤمن ودولة مدنية، أي دولة تحترم الدين وتصُون الحريات الكاملة لرعاياها المؤمنين لممارسة شعائرهم الدينية المتعددة والمختلفة والمتباينة من دون أن تتخلى عن مدنيتها.
لا يفترض أن يكون هناك أي اعتراض منطقي على مقولة المجتمع المتدين والدولة المدنية، وذلك لسبب جوهري وأساسي هو أن الإسلام الذي يؤكد على دوره في المجتمع ثقافةً وتربيةً ومنهج حياة، لم يقل أساساً بالدولة الدينية. والمؤشرات على ذلك كثيرة، منها: أولاً هو ما قاله الخليفة الأول أبوبكر الصديق يوم تولّيه الحكم: “إني وُليّت عليكم ولستُ بخيركم. فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني”. لو كان الحاكم يستمد سلطته من الله، أي لو كانت الدولة دينية، لما ذهب أبوبكر الصديق في ديمقراطية النص والممارسة اللتين اعتمدهما إلى حد المطالبة بتقويمه. فالحاكم الديني، أو الحاكم باسم الله، يطلب الطاعة من الرعية لا التقويم. ومشهورة قصة السيدة التي تصدّت للخليفة الثاني عمر بن الخطاب بعد خطبة له تحدت فيها عن موضوع الزواج والمهور، مما اضطره إلى قول العبارة التي قلّ أن نسمعها اليوم في أمهات الديمقراطيات في العالم وهي: “لقد أخطأ عمر، وأصابت امرأة”. ثم ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”؟ ومنها ثانياً ما توافَقَ عليه علماء العقيدة في الإسلام على اختلاف مدارسهم من أن حكم المسلمين، قضية اختيارية لا فرضية. وأنها مسؤولية ووظيفة بشرية، لا سلطة إلهية، وبالتالي صنفوها في القضايا الفرعية وليس في أصل الاعتقاد.
ليس في طرح مبدأ الدولة المدنية والمجتمع المتدين أي ادعاء لمحاولة اختراع الدولاب من جديد. ولكن فيه دعوة لبلورة هذا الطرح القديم -الجديد، بما يراعي، من جهة أولى، الإيمان الديني من حيث هو أحد المكونات الأساسية للشخصية المشرقية، وبما يستجيب، من جهة ثانية، لمتطلبات ومقتضيات الاختلافات الجوهرية المتأصِّلة في المجتمعات المتعددة. إن عالم القرن الحادي والعشرين يتغيّر بسرعة. ويتمحور تغيّره حول عوامل عديدة قد يكون الدين أحد أهمها، أو لعله حقّاً أهمها على الإطلاق.
جريدة الاتحاد