ثورة الفن المعاصر و الفن المعاصر للثورة
تيموثي كلارك , كريستوفر غراي , دونالد نيكيلسون-سميث , مع تشارلز رادكليف و آخرون
( نص غير منشور , 1967 )
هذا النقد المتأثر بالموقفيين Situationist للفن المعاصر من قبل بعض الراديكاليين الانكليز في عام 1967 الذين كانوا يومها يشكلون الفرع البريطاني للأممية الموقفية .
أزمة الفن المعاصر : الدادائية و السوريالية
يقول آرتود “لم يوجد أبدا من قبل مثل هذا الكلام الكثير جدا عن الحضارة و الثقافة كما هو اليوم , عندما نجد الحياة نفسها تختفي . و هناك توازي غريب بين الانهيار العام للحياة , الذي يكمن خلف كل عرض محدد لانهيار المعنويات , و هذا الهوس بالثقافة التي تهدف إلى السيطرة على الحياة” . يقف الفن المعاصر اليوم أمام نهاية مسدودة . أن لا تستطيع رؤية هذه الحقيقة يعني جهلا كاملا بالأطروحات الأكثر راديكالية للمجموعات الثورية الأوروبية خلال مرحلة الصعود الثوري بين 1910 – 1925 : أنه يجب على الفن أن يتوقف عن أن يكون تحويلا متخصصا و تخيليا للعالم و أن يصبح تحويلا فعليا للخبرة المعاشة نفسها . إن الجهل بهذه المحاولة لإعادة خلق طبيعة الإبداع نفسه , و قبل كل شيء كل تعاقباتها في الدادائية و السوريالية , قد جعلت كل تطور الفن المعاصر مشوشة , مختلة , و غامضة .
مع الثورة الصناعية , بدأ تغير في مجمل تعريف الفن – ببطء , و غالبا بشكل غير واعي , لقد تحول الفن من احتفال بالمجتمع و إيديولوجياته إلى مشروع للتدمير الكامل . من كونه تكثيفا و ضامنا للأسطورة , أصبح الفن “العظيم” انفجارا في مركز المجموعة الأسطورية . خارجا من الزمن و المكان الأسطوري قام بخلق وعي تاريخي راديكالي , قام بتحرير و إعادة تجميع التناقضات الفعلية للحضارة “البرجوازية” .
حتى القديم أصبح مدمرا – في غضون 50 عاما تمكن الفن من الفرار من الحقائق اليقينية لقيم يوليوس قيصر و خلق أسطورته الثورية الخاصة عن مجتمع بدائي ما . بالنسبة لديفيد و ليدو , كانت هناك حاجة للإمساك بأشكال الحياة و الوعي الذاتي التي أنتجت حضارة العالم القديم , لإعادة خلقها لا تقليدها . لم يكن القرن التاسع عشر سوى إعطاء هذا الاقتراح مظهرا شيطانيا و ديونيسيا أكثر .
أصبح مشروع الفن – بالنسبة لبليك , و نيتشه – إعادة تقييم لكل القيم و تدمير لكل ما يحول دون ذلك . أصبح الفن نفيا : في غويا , و في بيتهوفن , أو في جيريكالو , يمكن للمرء أن يرى التغيير من الاحتفالي إلى التدميري في فترة حياة واحدة . لكن تغييرا في تعريف الفن يحتاج إلى تغيير في أشكاله و قد تميز القرن التاسع عشر بمحاولة متسارعة و يائسة لارتجال أشكال جديدة من الهجوم الفني . بدأ كوربت باستعراض لوحاته في خيمة في الريف و انتهى في الكومونة بالإشراف على تدمير عمود الفيندوم ( العمل الفني الأكثر راديكالية عبر القرن , الذي أنكره مؤلفه على الفور ) .
بعد الكومونة , عانى الفنانون من انهيار جماعي في أعصابهم . أعيدت ولادة الزمن الأسطوري من رحم الاستمرار التاريخي , لكنه كان زمانا أسطوريا للفرد المعزول و المندثر في نهاية الأمر . في الرواية , ناضل تولستوي و كونراد للاحتفاظ بحس من الفراغ , يتأرحج بتهكم نحو اليأس , توقف الزمن و ساد الجنون .
بالنسبة للرمزيين , أصبح تجنب التاريخ مبدأ , لقد تخلوا عن النضال في سبيل أشكال ثورية جديدة لصالح عقيدة أسطورية تماما عن الإشارات الفنية المعزولة . إذا كان من المستحيل رسم البروليتاريا , فإنه من المستحيل على نفس المستوى رسم أي شيء آخر . لذا على الفن أن يدور حول العدم , و على الحياة أن توجد لأجل الفن , أما الحقيقة القبيحة و التي لا تطاق , كما قال مالارام بازدراء كامل , هي “الشكل الشعبي من الجمال” . عاش الرمزيون في عالم متأنق إلى ما لا نهاية لكنه عبارة عن تكرار خانق . في مالامار نفسه , فإن موضوع الشعر الذي لا يمكن الافلات منه هو موت الكائن الموجود و ولادة الوعي المجرد : وعي هو في نفس الوقت متعدد الأشكال , كامل , و مضاد للديالكتيك بشكل هائل و عقيم بشكل راديكالي .
في النهاية و بسبب كل غضبهم ( عمل الرمزيون والأناركيون سوية في التسعينيات من القرن التاسع عشر ) علق الفن الثوري في تناقضاته . لم يكن بمقدوره , و لم , يفلت من أشكال الثقافة البرجوازية ككل . يمكن لمضمونه و لأسلوبه أن يصبح تحويلا للعالم , لكن , فيما يبقى الفن حبيسا ضمن المشهد *spectacle الاجتماعي , يبقى تحويله هذا تخيليا . بعيدا عن أن يدخل في الصراع الاجتماعي المباشر مع الواقع الذي ينتقده , فإنه ينقل كل المشكلة إلى مجال مجرد و مسالم عندما يتصرف بموضوعية كقوة تقوي كل ما تريد أن تدمره . أصبحت الثورة ضد الواقع تجنبا لهذا الواقع . ينطبق نقد ماركس الأصلي لمنشأ الأسطورة الدينية و الإيديولوجيا كلمة بكلمة على تمرد الفن البرجوازي : فهو أيضا “في نفس الوقت تعبير عن البؤس الفعلي و الاحتجاج على هذا البؤس الفعلي . إنه زفرة الكائن المضطهد , قلب هذا العالم الذي لا قلب له , تماما كما أنه روح هذا الوضع الذي بلا روح . إنه أفيون الشعوب” ( ماركس , مساهمة في نقد “فلسفة الحق” لهيغل ) .
ينفجر الانفصال و العداء بين “عالم” الفن و “عالم” الحياة اليومية أخيرا في الدادائية . يقول تزارا “الحياة و الفن شيء واحد” ,”إن الفنان المعاصر لا يرسم , إنه يخلق مباشرة” . لكن هذه الذروة في الإبداع الفعلي و المباشر كان لديها تناقضاتها الخاصة . كانت كل الاحتمالات الإبداعية الفعلية للوقت تعتمد على الاستخدام الحر لقواه المنتجة الفعلية , على الاستخدام الحر لتكنولوجيتها , التي استبعد منها الدادائيون , مثل كل فرد آخر . فقط إمكانية الثورة الكاملة كانت لتحرر الدادائيون . من دون ذلك , كان الدادائيون محكومين بالتحول إلى التخريب , و في النهاية , إلى العدمية – غير قادرين على تجاوز مرحلة إدانة ثقافة مغتربة ( نسبة لمفهوم الاغتراب الماركسي – المترجم ) و الأشكال التي تضحي بذواتها من التعبير التي تفرضها على فنانيها و جمهورها في نفس الوقت . لقد رسمت صورا على لوحة الموناليزا عوضا عن أن تقوم بتعلية متحف اللوفر .
اشتعل الدادائيون و احترقوا كفن يخرب الفن باسم الواقع و الواقع باسم الفن , عمل يدل على القوة للظرافة العدمية . إن التنوع و الوفرة و الجرأة للإبداع المتهكم الذي حررته , الحيوي بما يكفي لتحويل أكثر المواضيع أو الأحداث تفاهة إلى شيء نابض بالحيوية و غير متوقع , اكتشفت اتجاهها الفعلي أثناء الجيشان الثوري في ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى . في برلين حيث كان تعبيرها أكثر تماسكا , عرض الدادائيون لمحة خاطفة عن ممارسة جديدة أبعد من السياسة و الفن : ثورة الحياة اليومية .
كانت السوريالية في أول الأمر محاولة لتشكيل حركة إيجابية من الدمار الذي خلفه زوال الدادائية . فهمت المجموعة السوريالية الأصلية بما يكفي من الوضوح , على الأقل في أوجها , أن القمع الاجتماعي متماسك و يتكرر على كل مستوى للتجربة و أن المعنى الضروري للثورة يمكنه فقط أن يكون التحرير و الإشباع الفوري لكل شخص مقموع حي ” تحرير الذات المضطرمة بالثورة و الإبداع العفوي , مع إعادة ابتكار مستقلة للعالم من حيث الرغبة الذاتية , التي كشف فرويد وجودها لهم ( لكن قمعها و تساميها اللذان كان فرويد , كمتخصص يقبل دوام المجتمع البرجوازي بكليته , يعتقد أنه لا يمكن إلغاءهما ) . لقد رؤوا عن حق أن الدور الأكثر حيوية الذي يمكن للطليعيين الثوريين أن يلعبوه هو خلق مجموعة متماسكة لتجريب نمط حياة جديد , أن يشكلوا تكنيكات جديدة , و التي ستكون في نفس الوقت معبرة عن الذات و محرضة اجتماعيا , في توسيع أشكال التجربة المعاشة . كان الفن سلسلة من التجارب الحرة في إطار بناء نظام تحرري جديد .
لكن سقوطهم التدريجي نحو الأشكال التقليدية للتعبير – ذات الأشكال التي كان الدادائيون قد حكموا على مزاعمها بانعدام الأخلاق , من دون رحمة , مرة واحدة و إلى الأبد – ثبت أنه كان سقوطهم : قبولهم بالموقف الإصلاحي أساسا و اندماجهم في المشهد . لقد حاولوا أن يدخلوا البعد الذاتي للثورة إلى الحركة الشيوعية في ذات اللحظة التي كانت فيها تراتبيتها الستالينية تحقق كمالها . حاولوا استخدام الأشكال الفنية التقليدية في نفس اللحظة التي كان فيها انحلال المشهد الذي هم أنفسهم يتحملون بعض المسؤولية عنه , قد حول أكثر المواقف المخزية للثورة في المشهد إلى سلع رائجة بقوة . كما تبخرت كل الإمكانيات الثورية الحقيقية لتلك المرحلة , خنقتها الإصلاحية البيروقراطية أو قتلت بواسطة فرق الإعدام , فإن المحاولة السوريالية لاستبدال الفن والسياسة بنوع جديد كلية من التعبير الذاتي الثوري انحطت بثبات إلى محاكاة مضحكة لعناصرها الأولية : الفن الأكثر سماوية و الشيوعية الأكثر بؤسا .
* spectacle أي العرض أو المسرح مفهوم ذا أهمية مركزية في فهم الموقفيين للمجتمع المعاصر , حيث يتحول فيه كل شيء إلى جزء من العرض , إلى سلعة أو بضاعة
ترجمة : مازن كم الماز
نقلا عن //libcom.org/tags/art