التعليم في سورية.. بعض ما نشهده
أبي حسن
تسأل مدرسا سوريا أيّ مدرّس يصحّح أوراق طلاب شهادات الثالثة إعدادي أو الثالثة الثانوي، فتصدم بقوله إنه يصحّح أوراق المحافظة(ع) بنات، أو أوراق المحافظة (س) ذكور! إجابته تعطيك دليلاً قاطعاً على الانحدار الذي وصل إليه المجتمع السوريّ أو بعضه في ما يخصّ نظرته السلبية حول التعليم المختلط، هذا ونحن نكاد نطوي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين!
فحال التعليم في سورية اليوم تختلف عما كانت عليه قبل عقد من الزمن، إذ ثمة أمور طرأت على بنية المجتمع السورية، أو بعضه، انعكست بدورها على التعليم الرسمي والخاص. وما سنورده لاحقاً قد يبين جانباً من الكارثة المستقبلية التي تنسج لمستقبل أطفال سورية سواء عن معرفة ودراية أو جهل.
سبق أن انتقلت الطفلة(ه. ع) الطالبة في الصفّ الثالث الابتدائي من مدرسة معاوية بن أبي سفيان الرسمية الكائنة في حي ساروجة، إلى مدرسة خاصّة في أشرفية صحنايا، فتحت ضغط أسئلة زميلاتها في ما يخصّ كون والدتها، التي كانوا يرونها إبان أخذها لابنتها في نهاية الدوام، غير محجّبة، وبسبب أسئلة الطفلة ذاتها لوالديها لماذا لا يصلّيان وأسئلة أخرى من هذا القبيل، خاف الأبوان على مستقبل ابنتهما من عاقبة هذه الأسئلة التي تضج ّ بها البيئة المدرسية الحاضنة لطفلتهما فلم يكن من خيار أمامهما سوى نقلها إلى مدرسة خاصة.
طبعاً لم تنته معاناة تلك الطفلة في المدرسة الخاصة، إذ التعليم المختلط فيها لا يتجاوز الصف الخامس الابتدائي(يكون عمر الطالب عشر سنوات)، ثم يتم الفصل بين الجنسين. وفي تلك المدرسة فإنّ الصلاة ركن أساسيّ قد يفوق في أهميته الدروس التي يتلقاها الطلبة مقابل مبالغ مالية شبه خيالية!
ليست الطفلة المذكورة ومدرستها استثناء في بلادنا. فثمة طفلة أخرى تقطن في عش الورور(أحد أحياء البؤس التي تطوق العاصمة دمشق)، وهي في الصف الخامس الابتدائي، بدأت، فجأة، تصلي الأوقات الخمسة، ورويداً رويداً صارت تنزوي عن أهلها ومحيطها مفضلة الاعتكاف في غرفتها، ما سّبب القلق لوالديها، خاصة أن ابنتهما باتت ترفض الحديث معهما بأي شكل، دون أن يعرفا سبباً لذلك! وإن كان لا بد من المزيد من الشواهد نستشهد بحال طفلة من مدينة جبلة الكائنة في الساحل السوري، إذ كانت والدتها تستيقظ لتجد ابنتها تتحدث إلى نفسها بلهجة بما يشبه الهلوسة، وفي مكاشفة مع ابنتها، سألتها الابنة بلهجة ملؤها الخوف والرعب: “هل صحيح يا ماما أنّ الله يحرق الناس في النار؟!”، بالتأكيد ليس من الصعب على أحدنا أن يدرك ماذا تعني النار لطفلة لم تتجاوز سنواتها التسع!
نستطيع أن نتكهن بسبب أو أسباب تحول طفلة عش الورور ـ وسواها ممن نعرف وممن نجهل¬ ـ إلى ما آلت إليه بعد أن كانت طفلة معافاة على الصعيد النفسي على الأقل، وإذا ألقينا نظرة سريعة على مدرسة خاصة في دمشق، وكيفية تعاطي معلماتها مع المنهاج التعليميّ الذي قررته وزارة التربية، ونوعية “النصائح” التوجيهية التي يزودن الطلبة بها. فقد سبق أن منعت منذ قرابة الثلاث سنوات، إحدى المعلمات في مدرسة “دوحة الرحاب” الخاصة في مزة فيلات غربية(أحد الأحياء الراقية في العاصمة) درس الفائدة من مادة الرياضيات بذريعة أن الفائدة حرام في الإسلام(؟!)، في وقت حذفت زميلة أخرى لها درس التكاثر الجنسيّ عند الإنسان من مادة العلوم الطبيعية (ربما “اجتهدت” المعلمة، فاعتقدت أن الوزارة المعنية أخطأت في المقرر، لذا ارتأت حذف الدرس خوفاً على أخلاق الطلبة، وهي معذورة كونها لم تفرق بين درس تربوي مبني على أسس منهجية وعلمية وبين فيلم بورنو). مُدرسة أخرى في ذات المدرسة تقول لطلبتها: إن القمر من الناحية العلمية انشق، لكن النظر إليه بالتلسكوب حرام، لأنّ هذا تشكيك بقدرة الخالق عزّ وجلّ، وأخرى تزود الطلبة بنصيحة “قيمة” مفادها: إنّ التثاؤب بفم مفتوح حرام لأن الشيطان يدخل إلى الجوف عن طريق الفم (؟!).
وأيضاً في مدارسنا ثمة معلمات ينصحن الطلبة الأطفال بمتابعة قناتي “المجد” و”اقرأ” الإسلاميتين، ربما كي يضمن الطلبة مقعداً لهم في الجنة! وتصفّح الانترنت، من وجهة نظرهن، ليس “حراماً”، لكن على التلامذة الأطفال اختيار المواقع “بعناية” حسب تعبير إحدى المعلمات التي تنصحهم بمشاهدة موقع سجن “أبو غريب”! وليس مستبعدا أن يكون هناك معلمات ينصحن طلبتهم بتصفّح موقع معتقل “غوانتانامو”، والعلم عند الله!
من المفيد القول هنا: إن كل الحوادث التي سبق ذكرها قوبلت بصمت مطبق من قبل المعنيين بالشأن التربوي الرسمي هذا من جهة، على الرغم من تبجحهم الدائم بالعمل على تطوير مناهجنا المدرسية وتبعا طرق تفكير طلبتنا من الأطفال (الذين نخشى القول إنهم يسيّرون عن سابق إصرار وتصميم على خطى الطلبة). في الوقت ذاته قوبلت الحالات سابقة الذكر بصمت مطبق من قبل المجتمع بما فيه مثقفون يدّعون التفرغ للعمل في الشأن العام!
بالعودة إلى انزواء طفلة حي “عش الورور ، أستطيع أن أتكهن”، كمراقب، بأنّ معلّمة هذه الطفلة، تصور لهم أن كلّ من لا يصلي سيحرقه الله في النار إلى أن ينضج جلده، وكلما نضج جلده استبدله الخالق بجلد آخر. ولأنها طفلة، يمكننا أن نتصور كيف تتخيّل أنّ الله يعاقب والديها لأنهما لا يصليان، ومن يدري، قد يشتط بها الخيال إلى ما لا يحمد عقباه… وبحكم كونها طفلة فإنها أعجز من أن تفصح عما يعتمل في نفسها من أفكار وهواجس ومخاوف تتعلق بمصير محيطها العائلي الذي لا يصلّي، سنتفهم عندئذ سبب انزوائها عن أهلها وانكفائها عنهم..
من الطبيعي أن ينتابنا الخوف والقلق إزاء المفردات التعليمية التي يتلقاها الطلبة في بلادنا. ومن نافل القول أنّ هذا التوجه، الذي أشك في كونه رسمياً، يندرج في سياق العودة إلى الأصولية والماضوية التي بإمكاننا إدراك أسبابها هي الأخرى، بكل ما فيها من تخلّف. ولعلّ المعنيين بأمر التعليم يدركون أكثر من غيرهم أنهم لن ينتصروا في “معركة المصير” من خلال إعدادهم لجيل كامل من الطلبة معوّق عقلياً وفكرياً، فضلاً عن أنه بحكم نوعية تربيته المدرسية سيكون مفتقداً لحسّي المبادرة والإبداع في الحدّ الأدنى، هذا إن لم نقل إنهم يعدون لجيل، من حيث يدرون أو لا يدرون، يتسلح بعدة تكفيرية عوضاً عن تسليحه بأدوات التفكير المبدع الحر والخلاّق الذي من شأنه وحده بناء إنسان حرّ ومعافى من عقد الماضي ولديه المقدرة على الدخول والعيش في رحاب القرن الحادي والعشرين، وإلا كيف نفسر ما يجري في مدارس الطلبة، لا سيما المرحلة الابتدائية، وهي أخطر مرحلة تعليمية لما لها من صلة وطيدة في بالبناء العقليّ للطفل؟
وستزداد مخاوفنا على مصير التعليم، ومخاوفنا من الجيل الذي ستفرزه آلية مثل هذه متبعة فيه، إذا ما تذكرنا الرسالة التي سبق أن رفعها عدد من السادة المشايخ إلى مقام رئاسة الجمهورية منذ قرابة العامين، ومن المعروف أن تلك الرسالة وصمت التعليم المختلط بالآفة والشذوذ والموبق الخ…
وإن كنا نأبى الدخول في مجادلة مع هؤلاء المشايخ خاصة أنهم ورثة الغزالي معرفياً وهو القائل :”السلامة في الإتباع والخطر في البحث عن الأشياء”، ومعروف عنه أنه صاحب القول الشهير: “لا تكن بحاثاً عن علوم ذمّها الشرع” والمقصود بقوله هذا ـ باختصار شديد ـ إغلاق نوافذ العقل لا أكثر ولا أقل. وقد كان عنده طائفة من العلوم سمّاها “بالعلوم المذمومة” منها الطبيعيات والفلسفة، فبرأيه أن بعضها “مخالف للشرع والدين والحق، فهو جهل وليس بعلم.. وأما علومهم في الطبيعيات فلا حاجة إليها” وبديهي إن الطبيعيات تنطوي على الفيزياء والكيمياء وحتى الرياضيات إلخ…. وهذه كلها من المحرمات!
يبقى أن نأمل، أن تأخذ وزارة التربية في سورية وكل الحريصين على مستقبل أبناء هذا الوطن وحسن التعليم فيه، أمر نوعية التعليم في مدارسنا، وأن ينظروا بقليل من الاهتمام إلى شأن القائمين عليه من معلمات خاصة من تحمل منهن صفة “رفيقة قبيسية” على محمل الجد، وإلا لن نستغرب أن نشهد في سوريا جيلاً طالبانياً بامتياز، ولاشك في انه جيل سندفع جميعنا ثمن إنتاجنا له، ونخشى القول إن الثمن سيكون باهظاً.
وأخيراً يكفي أن نذكر أن “زوايا” جامعة دمشق باتت مليئة بالسجاد للمصلين، ومع ذلك يتخرّج طالب الإعلام من تلك الجامعة، وهو لا يعرف شكل الميكروفيلم والكارد على سبيل المثال لا الحصر، علماً أنه يقرأ عنها (نظرياً) منذ سنته الجامعية الأولى، وقد تكون تكلفة الكارد لا تساوي ثمن سجادة صلاة واحدة!
موقع الآوان
I was really happy read this artikel it says exactly what i want to say thank you.