فينوغراد وفرحة السذَّج
محمد علي العبد الله (*)
صدر تقرير فينوغراد أخيراً، وجاء مخيباً لآمال الكثيرين، فلا هو أسقط حكومة أولمرت كما كان متوقعاً، ولا استطاعت المقاومة استخدامه كذخيرة في “حربها” الداخلية مع الموالاة.
وكالعادة أمتلأت الشاشات بالمحليين الذين تفننوا في تحليل التقرير ونتائجه وتبعاته، وما سيترتب عليه من نتائج حاسمة، في استحضار واضح للكلمات القاسية التي وجهها التقرير لحكومة أولمرت حول “الفشل”، “التقصير” و”سوء التقدير” وغيرها، فقط لتأكيد انتصار المقاومة في محاولة لتثبيت “المكاسب” القليلة التي جناها التقرير.
لكن التقرير كشف في جملة ما كشفه قصوراً حاداً في السياسة اللبنانية، فلا المقاومة فتحت تحقيقها الخاص بما حصل، ولا الحكومة تتجرأ على فتح هذا التحقيق، ولا وجود لجهة ثالثة يثق الطرفان بها تعنى بدراسة تلك الحرب وتقييم نتائجها بالحد الأدنى من الموضوعية، في وقت غدا فيه ذلك السجال العقيم حول نتيجة الحرب، إنتصارُ أم صمود فقط، أم فشلٌ إسرائيليُ ذريع دون إنتصارٍ لبناني، تافهاً وسخيفاً، فلبنان لم يحدد أهدافاً وغايات لتحقيقها عبر الحرب ليمر التقييم عبر تحققها أو عدمه، ناهيك عن كونه لم يستعد للحرب أصلاً ولم يبادر إليها.
ان تقريرٌ يهدف لتقوية إسرائيل أكثر، الأمر الذي يتجسد عملياُ في نقطتين هامتين جرى إغفالهما عن قصد أو بدون:
أن رئيس الحكومة الإسرائيلية هو نفسه من أمر بتعيين القاضي إلياهو فينوغراد للتحقيق بالفشل الإسرائيلي في الحرب، ومنحه صلاحيات كبيرة في تقديم تقرير قد يطيح بالحكومة التي يسوسها.
وأن اللجنة لم تقل في تقريرها أن الحرب يجب ألا تظل الخيار الوحيد مع لبنان أو مع حزب الله، بل هي تريد حرباً واضحة النتائج، يحدد فيها المنتصر بوضوح لا يقبل الشك أو التأويل.
ولكن ما ميز التقرير هو محاسبته الجادة للقادة الأساسيين في الجيش وصولاً الى رئيس الوزراء الاسرائيلي، فالإسرائيليون لم يتبنوا نظرية “التعتيم” و”التورية” والسكوت عن الأخطاء، مثلما يحدث عندنا، ولا اتهموا بالخيانة والعمالة كل من رمى بضرورة إعادة النظر في ما جرى وتقييمه في ضوء الإمكانات وموازين القوى، بل “فضحوا” أنفسهم بيدهم، ونشروا تقريرهم القاسي، والمستفيد هو إسرائيل بكل تأكيد على الرغم من الفرحة والتشفي العربيين الناتجين عن التقرير واللذين ظهرا ببساطة ـ تقارب السذاجة ـ أظهرت معها القصور الحاد في السياسة اللبنانية عموماً، وغياباً كلياً للنقد الذاتي الموضوعي خصوصاً.
بالأمس قدمت دولة الإحتلال دليلاً جديداً على ان قوتها لا تعتمد فقط على كونها تمتلك قنابل نووية أو قوة عسكرية هائلة أو قدرات اقتصادية متقدمة. ثمة مجتمع يعزز وحدته يومياً رغم كونه خليطا عجيبا من البشر الذين تجمعهم عصبية دينية تميزهم بأنهم كانوا وما زالوا في غالبيتهم الساحقة غير متدينين، وثمة مؤسسة تبتكر يومياً وسائل وحلول ترسخ دورها وتحمي موقعها، لتنتقل من فكرة الكيان إلى الدولة، حتى ولو اقتضى الامر تقديم بعض القرابين على مذبح “الدولة” التي لا يجوز أن تفقد صورتها المحاربة والقادرة دوماً على تحقيق تلك الانتصارات الباهرة والخاطفة، المحفوظة في سجلاتها التاريخية.
لكن أين تقريرنا نحن؟؟ أين لجان التحقيق والتقارير التي تجيب عن تلك الأسئلة الهامة: عن الحرب وما جرى بها، وعن الإستعداد لها، وعن جدواها وعن إمكانية تجنبها أصلاً.
ألم يحن الوقت لكي نحاسب سياسيينا دون أن نكون من الخائنين، مجرد قبول الفكرة بالمحاسبة هو خطوة مهمة على طريق النصر الذي فهمت إسرائيل أنه لا يكون عسكرياً فقط، فمتى نفهم نحن؟
(*) كاتب وناشط حقوقي سوري.
خاص – صفحات سورية –