صفحات سوريةما يحدث في لبنان

أين أصبح “النموذج الفريد”؟!

null
موريس نهرا
منذ الإستقلال وحتى اليوم تتكرر ظاهرة الأزمات والتوترات التي تتفاعل في الحياة السياسية والعامة، وتحدث تباعداً وتنافراً بين المجموعات اللبنانية (طوائف ومذاهب) وتصل أحياناً الى نزاعات وفتن وحروب أهلية تترك أثرها السلبي في النفوس سنين طويلة، وما إن تغيب، حتى تعود من جديد، فتخلق بتسارعها مناخاً طائفياً ومذهبياً شبه دائم يسوده الحذر والحساسية المفرطة.
ويجري كل ذلك في ظل معالجات وتسويات فوقية مرفقة “باسطوانة” لا غالب ولا مغلوب، مع ان المواطن والوطن هما المغلوبان دائماً، ويستمر التغني بالنموذج الفريد، والعيش المشترك، والصيغة التوافقية المجسّدة في آليات النظام والسلطة المبنية على الطائفية، التي تتيح للطوائف والمذاهب من خلال زعمائها أن تتحكم بالدولة وتتقاسمها، مواقع، وحصصاً، وسيادة، فتشل قدرتها ودورها، وتهدد وحدتها في حالة الإختلاف، وتجعلها في فترة الاستقرار النسبي حقلاً للتنفيعات وتوظيف الأزلام، بدلاً من دورها ودور السلطة الذي وجد أساساً وينبغي أن يكون، لخدمة المصالح العامة للوطن والشعب بجميع طبقاته الاجتماعية ومناطقه…
إن تكرار هذه الظاهرة التي باتت ملازمة للوضع اللبناني القائم، ينجم من البنية الطائفية للنظام وسلطته السياسية، التي تشكل منبعاً للتناقضات المحاصصية والسياسية والوطنية الخ… وفي النظرة الى الوطن والدولة، التي سرعان ما يتحول التناقض فيها الى صراع طائفي ومذهبي خطير، يطال عمق المجتمع.
والمشلكة هنا، هي في أن معظم المسؤولين والحكومات التي تعاقبت على السلطة، لا يجهلون هذا الأمر المتكرر وشبه الدائم، وإلحاحية معالجته فعلياً.
لكن طغيان مصالحهم الخاصة في إستمرار زعاماتهم وتعزيزمواقعهم في السلطة ووسط طوائفهم ومذاهبهم، التي يؤمنها نظام المحاصصة الطائفية، تدفعهم للتمسك بهذا النظام وتجديده. فعندما تبرز الخلافات بينهم وتحتدم التناقضات يلجأ كل منهم الى استنفار جمهور مذهبه أو طائفته والى الاستقواء بالخارج الذي أظهرت التجربة أن أي خارج كان، يستخدم الداخل المتناقض أو أي جهة أو طائفة فيه، لخدمة مصالحه وخطته هو، في لبنان والمنطقة. وتصبح سيادة الدولة التي تتحكم بها الطوائف من الداخل، ضعيفة ومعرضة للإنتهاك وحتى للضياع بتدخلات الخارج، ويصبح معها أيضاً التوصل الى هدنة أو تسوية داخلية ولو موقتة، أكثر صعوبة لأنه يرتبط بمدى ملاءمتها مع مناخات ونتائج الصراعات الخارجية الاقليمية والدولية التي تتداخل أطرافها مع التناقضات والأطراف الداخلية. والتجرّؤ في المراهنة المكشوفة على الخارج والارتهان له – وهذا غير مقبول في الدول السيدة – لم يكن ممكناً لولا الغطاء الطائفي والمذهبي الذي يلجأ الزعماء لشد عصبه عندما يحتاجونه، لحماية مواقفهم وتغطية ممارساتهم الخاطئة والفاسدة، ولمقتضيات انتخابية، ويتحوّل اللعب في هذا العصب وشدّه، الى بديل ونقيض من العصب الوطني الذي يصبح منسياً أو ضائعاً في زواريب الطوائف والمذاهب ومزارعها.  ومع استمرار هذا الوضع وما ينشأ عنه من صراع وتوترات، تتحول السلطة الى هيئة يطغى فيها العمل لتخفيف حدة الصراع وإطفاء “الحرائق” بدلاً من التركيز على مهمات وقضايا ترتبط بتطور البلد لمواكبة العصر في القرن الحادي والعشرين.
إن الصيغة الطائفية للنظام التي جرى إعتمادها في الأساس كإطار لتوحيد اللبنانيين وضمان عيشهم المشترك والمستقر، أثبتت التجربة الطويلة عدم نجاحها في تحقيق الهدف المنشود، وإن كانت مفهومة ومفيدة في توحيد مواقف معظم اللبنانيين ظرفياً في معركة انتزاع الاستقلال… فالتوازن الدقيق الذي تقتضيه في تمثيل الطوائف وأحجامها ومواقعها ودور زعاماتها وممثليها، لا يمكن تثبيته إلا مؤقتاً، بينما الذي يطغى والمتصل بحالة الحركة والتغيّر، هو الخلل، الذي يرتبط بعوامل عديدة بعضها ديموغرافي، والآخر يتصل بالموقع الاقتصادي، أو بحجم التضحية والمقاومة دفاعاً عن الوطن، وكذلك بالتداخل والتفاعل القائم بين الوضع الداخلي والأطراف المكونة له، وبين الأوضاع والصراعات الاقليمية والدولية وأطرافها…
أما المفهوم الآخر الذي ينبثق من الصيغة الطائفية والمعروف بالديموقراطية التوافقية لضمان مشاركة جميع الطوائف والتوازن بينها، فإنه يعقّد عمل الحكومة، ويضاعف حتى من صعوبات تشكيلها، خصوصاً أن قانون الانتخاب الأكثري والطائفي الذي يتيح استخدام العصبية الطائفية والمذهبية، إضافة لأمور أخرى مثل المال والتنفيعات الفردية وغيرها، يأتي بزعيم المذهب أو الطائفة ونوابها التابعين له، فيفرض على الحكومة من خلال إلزامية مشاركة طائفته فيها، مكاسب واشتراطات تتعارض مع مطالب وطروحات ممثلي طوائف أخرى.
كما بوسعه وفقاً للديموقراطية التوافقية وحتمية المشاركة، أن يستخدم، بمعنى ما، حق النقض وصولاً الى إستقالة وزرائه “وزراء الطائفة” من الحكومة فتصبح منتقصة الميثاقية والشرعية، ويصاب دورها بالشلل الجزئي أو الكلي… وفي حالات تناقض المواقف والخيارات السياسية بين الأطراف الممثلة للطوائف، تتعثر عملية تشكيل الحكومة أو استمرارها، ولا يعود صحيحاً تسميتها حكومة وحدة بسبب تناقضات أطرافها، ولا وطنية (إلا بمعنى مجازي هو جمع ممثلي الطوائف اللبنانية) لأن المنطلقات والمواقف السياسية متباينة، وأحياناً متصارعة، حيال شؤون الوطن وأسس بنائه وتحصينه وحماية أرضه وسيادته في وجه مطامع العدو الإسرائيلي والمخططات الأميركية الداعمة له، والتي ترمي الى السيطرة على منطقتنا ولبنان منها، وعلى ثرواتها النفطية وإقامة شرق أوسط جديد بديلاً مما هو قائم، واستعمال كل الوسائل من أجل ذلك.
من العدوان والحرب كما جرى ضد العراق والاحتلال المتعثر فيه، الى عدوان تموز الفاشل على لبنان عام 2006، الى ما يجري ضد الشعب الفلسطيني من مجازر، لحرمانه من حقوقه التاريخية المشروعة وعلى الأخص حق العودة، الى نشر “الفوضى البناءة” بتأجيج صراعات ونزاعات دينية ومذهبية وإثنية بين بلدان المنطقة وداخل كل منها. وما تأكيد الرئيس الاميركي جورج بوش المتكرر ودعمه للطابع الديني اليهودي لدولة إسرائيل، سوى عامل استفزاز وتحريض لدفع دور التيارات الدينية والمذهبية السلفية والمتطرفة، مما ينتج مناخاً مؤاتياً لنموها، و يخلق وضعاً مشحوناً وحتى نزاعياً ومتوتراً في المنطقة، قد ينعكس عندنا من خلال العصبيات الطائفية والمذهبيةالتي تتغذى من بقاء الصيغة الطائفية اللبنانية والتلطي بها، لأنها تشكل أرضاً خصبة لتنامي وجود هذه التيارات وبروزها، فتزيد المشكلات القائمة مشكلات جديدة أكثر خطورة. لذلك فإن مهمة تحصين الوطن وبناء الدولة الديموقراطية العلمانية العادلة والقادرة، باتت مسألة اكثر الحاحاً.
هذا خصوصاً بعد أن كشفت التجربة العملية أن الصيغة الطائفية التوافقية والقانون الانتخابي الأكثري، لم ينجحا في تحقيق الاستقرار في لبنان، وحتى في السلطة ولا في التجديد والتطور الديموقراطي، وإن الأسس الطائفية التي ارتكز اليها النظام القائم لم تؤدّ الى بناء الدولة المتماسكة والوطن الموحد، بل على العكس من ذلك، فقد ازدادت المشكلات والأزمات احتداماً، وازداد عجز النظام وسلطته عن حلها تحت سقفه، لأن بناء النظام السياسي على أساس كيانات سياسية للطوائف، جعل الولاء لها  قبل الوطن وعلى حسابه. وهو في الوقت نفسه لم يضمن الاطمئنان للطوائف، ولا وفّر حماية جمهور أي طائفة أو مذهب، لا أمنياً ولا معيشياً واجتماعياً، وبدلاً من تعزيز سيادة لبنان تحوّل ساحة مفتوحة للتدخلات الخارجية.
وقد أدّى كل ذلك الى بقاء وحدة الكيان الوطني مهتزة، والسلم الأهلي مهدداً والوضع الاقتصادي الاجتماعي مأزوماً ومتدهوراً… هذا الأمر السائد والمتكرر والمنكّد لحياة الناس، جعل حتى خبر تشكيل الحكومة الذي هو أمر طبيعي، انجازاً مبهراً يريح اللبنانيين ويفرحهم، نتيجة تعبهم وقلقهم البالغ من الحالة المأزومة والمعيشية الصعبة، وخطر مناخات التوتر والفتن على حياتهم وأبنائهم.
إن مصلحة لبنان واللبنانيين في الخروج من دوامة الأزمات، تقتضي السير بمنحى إلغاء النظام السياسي الطائفي، تنفيذاً لما جاء في إتفاق الطائف والدستور اللبناني ولو على مراحل، واعتماد قانون انتخاب على قاعدة النسبية والدائرة الواحدة وخارج القيد الطائفي، يُستحدث الى جانبه مجلس شيوخ محدود الصلاحيات لتمثيل الطوائف. وذلك ليس فقط لتصحيح التمثيل الشعبي على أهميته، بل ليكون بديلاً من قوانين إنتخاب تقوم على أساس أكثري وطائفي، فتلغي الآخر حتى إن حصل على 49% من الأصوات، وتعزز منطق جعل الوطن جزراً طائفية. بينما النسبية والدائرة الواحدة تؤدي الى ارتقاء الحياة السياسة والنيابية، بجعل معايير الانتخاب لدى الناخبين، تتأسس في المدى الوطني وعلى برامج التيارات أو الأحزاب والائتلافات، وليس على قاعدة الولاء للزعيم وللمذهب والطائفة. كما ان النسبية في الانتخاب هي الطريق الأسلم لتداول السلطة والتجديد فيها ولمنع استئثار زعيم الطائفة بنوابها وبالتالي وزرائها، فتلغي بذلك امكان “حق النقض” بإسم المذهب أو الطائفة بالخروج من الحكومة، وتجعل تشكيلها، كما في العالم المتمدن، على قاعدة الأكثرية والأقلية، فتصبح مراقبة الحكومة ومحاسبتها على ممارساتها أمراً طبيعياً، في حين تبقى مسألة المحاسبة في حكومات المشاركة “بمعنى تمثيل الطوائف”، معدومة، حيث الجميع في الحكومة، وأيّ منهم يستطيع  التذرع بأن الآخر هو المسؤول عن البطء أو العرقلة في العمل المطلوب.
(رئيس المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى