المنطقة إذ تعيش على التبريد والتسخين في وقت واحد
حسن شامي
يبدو أن التسخين والتبريد في وقت واحد، أو إحلال الصيف والشتاء على سطح البيت الواحد، سيظل يحكم في المدى المنظور آلية اشتغال السياسة في المنطقة. المدى المنظور يتعلق باقتراب نهاية ولاية الرئيس الرئيس الأميركي جورج بوش في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، مما يجعل من الإلحاح الأميركي الحالي على ضرورة توقيع الاتفاق الأمني مع الحكومة العراقية قبل نهاية الشهر الحالي أمراً استراتيجياً تسعى الإدارة الحالية الى فرضه إرثاً سياسياً على الإدارة اللاحقة التي ستنبثق من الانتخابات الأميركية الرئاسية بعد أشهر معدودة. وقد تزايدت، في الأيام القليلة الماضية، تصريحات المسؤولين العراقيين المشددة على ضرورة أن يتضمن أي «اتفاق» أو «تفاهم» بين الطرفين على جدولة انسحاب القوات الأجنبية من العراق واحترام السيادة الوطنية. فقد أعلن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي خلال لقاء مع السفراء العرب لدى دولة الإمارات العربية المتحدة التي زارها مدة يومين، مطلع الأسبوع الحالي، ان المفاوضات ما زالت مستمرة مع الجانب الأميركي، «والتوجه الحالي هو التوصل الى مذكرة تفاهم، إما لجلاء القوات أو لجدولة انسحابها. وفي كل الأحوال فإن قاعدة أي اتفاق هي الاحترام الكامل للسيادة العراقية». وبعد يوم واحد على تصريح المالكي الذي رأى فيه كثيرون تبدلاً في نهج الحكومة العراقية، أعلن موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي للحكومة العراقية، أن العراق لن يقبل أي اتفاق أمني مع الولايات المتحدة ما لم يتضمن مواعيد لانسحاب القوات الأجنبية، وأن العراقيين لا يمكنهم التوصل الى «مذكرة تفاهم» مع القوات الأجنبية ما لم تتضمن تواريخ وآفاقاً واضحة فيما يخص رحيل القوات الأجنبية. وقال إن الحكومة تتحدث دول لبس عن رحيلهم. وقد جاء كلام الربيعي بعد اجتماع مع آية الله علي السيستاني في مدينة النجف، مشيراً الى وجود تفاوت كبير في المنظور بين العراقيين والأميركيين والى أن قدرات قوات الأمن العراقية البالغ عددها ما بين 500 و600 ألف فرد قد تحسنت كثيراً.
ليس بلا دلالة أن تجنح لغة المسؤولين العراقيين الى الحديث عن «مذكرة تفاهم» بدلاً من «الاتفاق الأمني». وقد لا يكون هناك علاقة مباشرة بين تبدل لغة نوري المالكي وبين عملية الإنزال الجوي التي نفذتها قوات أميركية قبل أسبوعين في حي «جناجة» في منطقة طويريح، مسقط رأس المالكي والمعقل الرئيس له حيث لا يزال منزله في المنطقة وسط منازل أشقائه وأقاربه، هذا مع العلم بأن محافظ كربلاء عقيل الخزعلي دان العملية بسبب «إقدام القوات الأميركية على ارتكاب أعمال مشينة وغير قانونية وانتهاك حرمة رئيس الوزراء العراقي». بل حتى طالب بمحاكمة الجنود والضباط الأميركيين الذين شاركوا في عملية الإنزال لقتلهم مدنياً أعزل واعتقالهم آخر وترويع العائلات. وقد شملت العملية مداهمات لبيوت بينها منزل شقيقة المالكي، فيما نفى مدير العمليات الأمنية في كربلاء مشاركة القوات العراقية في الإنزال، لأن العملية لم تنفذ أصلاً بالتنسق مع السلطات العراقية.
من الصعب في بلد يبالغ زعماؤه في إطلاق صفة «الائتلاف» و «التوافق» و «الاتحاد» على هيئاتهم الحزبية والسياسية تعويضاً عن شدة الانقسام التي تنخره، أن تتحول حادثة الإنزال الجوي المذكور الى ما يشبه حادثة دنشواي المصرية أيام الاحتلال البريطاني لمصر حيث الهويات الاجتماعية أكثر تبلّراً وأقل خضوعاً لمنطق الانقسامات القبلية والمذهبية. على أن مثل هذا الاختلاف في التكوين الاجتماعي والثقافي لا يمنع من توليد المعادلة العامة التي ألهبت مخيلة السياسيين والنخب الوطنية خلال الحقبة الاستعمارية وهي: مواجهة الاحتلال الغربي، المدجج بالحداثة السياسية، بأسلحته وبمبادئ حداثته هذه. في هذا المعنى، يبدو الحديث العراقي عن جدولة الانسحاب واحترام السيادة الوطنية وطمأنة دول الجوار والانتهاء من وضع العراق تحت البند السابع للأمم المتحدة، مؤشراً على ارتسام أفق وطني استقلالي يحتمل، بطبيعة الحال، أن يكون بداية انطلاق سيرورة اجتماع وطني يعترف بالانقسامات والاختلافات ويتعهدها، وأن يكون، على العكس، مادة لتأجيج الانقسام والتخندق. بعبارة أخرى، تحتمل مثل هذه السيرورة، خصوصاً في ظل الوضع العراقي الحالي وما أفسده الدهر والاحتلال معاً، تحتمل التبريد والتسخين.
وقد سارعت المتحدثة باسم البيت الأبيض دانا بيرينو الى الرد على الاقتراحات العراقية الجديدة بالقول إننا «عارضنا دائماً وما زلنا نعارض موعداً تعسفياً للانسحاب». ورأت أن مثل تلك القرارات ينبغي أن «تستند الى الأوضاع على الأرض»، أي ميدانياً، ورأت كذلك أن العراقيين يوافقون على ذلك. يمكننا أن نتوقع تراجع الحديث الأميركي عن بلوغ القوات العراقية درجة القدرة على الإمساك بالأمن الوطني، كما قيل بتفاؤل في أعقاب المواجهات بين القوات الأمنية العراقية وميليشيا «جيش المهدي» الذي يتزعمه السيد مقتدى الصدر. وسيجري النفخ في صورة الحاجة الى القوات الأميركية للحفاظ على وحدة الإقليم العراقي، لدرء مخاطر النفوذ الإيراني في المنطقة. وعليه يمكن للعلاقة بين الحكومة العراقية والقوات الأميركية أن تشهد تسخيناً سياسياً أو تبريداً تبعاً لمبدأ «الوضع الميداني» القابل لشتى التأويلات والاستخدامات. في هذا المعنى سيكون الانقسام العراقي حاجة أميركية أكثر مما هو حصيلة معاينة وتشخيص حال.
لنقل إن العنوان الفني الجامع لهذه التجاذبات، تسخيناً وتبريداً، هو الملف النووي الإيراني. فقد أجرى الحرس الثوري الإيراني تجربة لصاروخ ذي رأس تقليدي يبلغ مداه ألفي كيلومتر ويمكنه أن يصيب أهدافاً في قلب إسرائيل، بحسب تصريحات مسؤولين إيرانيين لم يبخل بعضهم بالتهديد بإشعال إسرائيل وضرب وحدات الأسطول الأميركي في الخليج في حال تعرض إيران لضربة عسكرية إسرائيلية أو إسرائيلية – أميركية. وقد اعتبرت الولايات المتحدة هذا الاختبار الصاروخي الإيراني خرقاً للقوانين الدولية فيما اعتبرت المناورات العسكرية الإسرائيلية تمريناً رياضياً، وإن كان قادة الدول العبرية أرفقوا المناورات بتهديدات لإيران. يحصل هذا التسخين والتسخين المضاد فيما نشاط التبريد لا يتوقف هو الآخر، لدى الطرفين. ففي فلسطين يجري احترام نسبي للتهدئة في غزة، أي تبريد للجبهة، من دون أن يمنع ذلك من بعض التسخين في الضفة وعلى المعابر.
وفي لبنان، تستعد إسرائيل لإجراء عملية تبادل أسرى ورفات مع «حزب الله»، وهي عملية وصفها إيهود أولمرت بأنها تنطوي على بعض الإذلال، مما يؤشر الى نوع من التبريد، فيما أعلن مكتب وزير الدفاع عن طلبه من وزير الخارجية الفرنسية التدخل لوقف تدفق الأسلحة من سورية الى «حزب الله» تنفيذاً للقرار الدولي 1701، مما يؤشر الى نوع من التسخين في ظل انتهاكات الطيران الإسرائيلي للسيادة اللبنانية باعتبارها تحليقات واختراقات باردة ورياضية. والمسار اللبناني الداخلي بات يخضع الى حد بعيد للعبة التسخين والتبريد الجارية في وقت واحد، إقليمياً ودولياً. وقد وجدت وزيرة الخارجية الأميركية مخرجاً من المعضلة المتجددة، أي مواجهة الغرب سياسياً بمبادئه وأسلحته، ويقوم هذا المخرج على استخدام الهوية الثقافية سلاحاً سياسياً. فهي أكدت في مقابلة تلفزيونية أن واشنطن ملتزمة مساعدة العراقيين في الوصول الى «عراق ذي هوية عربية قوية» كي يكون العائق الأكبر «أمام النفوذ الإيراني السلبي» في المنطقة. قبل خمس سنوات جرى جدل كبير حول الهوية العربية للعراق لإدراج هذه الصفة في الدستور الجديد، وكان آنذاك أمثال ريتشارد بيرل يلعبون بالهويات والثقافات التاريخية كما يحلو لهم. ها هي الهوية العربية مدعاة تسخين أيديولوجي ضد إيران فقط، والباقي للتبريد.
الحياة – 14/07/08