اغتيال مغنية بديل عن الحرب الواسعة وليس تمهيداً لها
باتريك سيل
حولت إسرائيل استهداف اعدائها بعمليات الاغتيال الى اختصاص لها، أي انها ترسل فرق قتل لاغتيال أعدائها في الخارج، اعتقاداً منها أن الطريقة الفضلى للتعامل مع حركات المقاومة العربية تتمثّل بالتصفية الجسدية لقادة هذه الحركات. وخلال العقود الماضية، لقي عدد من الناشطين العرب والمفكّرين والعلماء مصرعهم بهذه الطريقة.
ويبدو أن ثمة شكوكاً قليلة حول مسؤولية العملاء الإسرائيليين عن اغتيال عماد مغنية، وهو من كبار قادة «حزب الله»، في 12 شباط (فبراير) الجاري في دمشق بواسطة تفجير سيارة.
فقد أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، نفيا ضعيفا، إلا أن تهليل الوزراء الإسرائيليين وفرقعة زجاجات الشمبانيا والتقارير المبتهجة في الصحافة الإسرائيلية تظهر واقعاً مختلفاً. وكتب موقع YNetnews الإسرائيلي على الانترنت: «لقد تمت تصفية الحساب»، في إشارة واضحة إلى أن عملية الاغتيال أتت رداً على الإذلال الذي تكبّده الجيش الإسرائيلي على يد «حزب الله» في حرب لبنان سنة 2006.
لكن هل هذا كلّ ما في الأمر؟ فإسرائيل تدرك تماماً أن عمليات القتل هذه من شأنها أن تؤدّي بشكلٍ حتمي إلى عمليات قتل انتقامية، كما حذّر الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله. وفي كلمة ألقاها أمام جمعٍ حاشد ضم عشرات الآلاف خلال مراسم تشييع مغنية في بيروت، توجّه مباشرةً إلى إسرائيل بالقول: «لقد قتلتم عماد مغنية خارج الأرض الطبيعية للمعركة. نحن وإياكم كانت معركتنا وما زالت على الأرض اللبنانية. لقد اجتزتم الحدود. أيها الصهاينة إن أردتموها حرباً مفتوحة فلتكن هذه الحرب المفتوحة».
كان يمكن توقع مثل هذا الردّ تماماً وهو سيؤدي بالتأكيد إلى شنّ هجمات على أهداف يهودية. وبالتالي، يبقى لغزاً سبب اعتقاد قادة إسرائيل بأن قتل عماد مغنية فكرة جيدة.
ثمة العديد من التفسيرات الممكنة لسلوك إسرائيل. ومن بينها سبب بسيط هو ان عمليات القتل المماثلة هي أعمال يعرف كلّ من وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، ورئيس جهاز الموساد مئير داغان، كيفية القيام بها.
ومنذ خمس وثلاثين سنة، في نيسان (أبريل) سنة 1973، قاد باراك، متنكرا بزي امرأة، فرقة قتل دخلت إلى قلب بيروت، واغتالت ثلاثة قادة فلسطينيين في شققهم – كمال عدوان وكمال ناصر ومحمد يوسف النجار. وفي نيسان سنة 1988، تورط باراك أيضا في قتل أبو جهاد (خليل الوزير)، القائد العسكري التابع لياسر عرفات، في منزله في تونس. وإلى جانب هذه الاغتيالات أضيفت عمليات قتل أخرى جعلت من باراك حاملاً لرقم قياسي من الأوسمة – أكثر من أي عسكري إسرائيلي آخر.
أما التفسير الآخر المحتمل لقتل عماد مغنية فهو عزم إسرائيل على الإثبات لخصومها في المنطقة – وليس فقط «حزب الله» و «حماس»، إنما سورية وإيران أيضا – أن «ذراعها الطويلة» باستطاعتها أن تصل إلى عمق أراضيهم. ويبدو أيضاً أن تلك كانت رسالة الغارة الجوية التي شنتها إسرائيل في أيلول (سبتمبر) الماضي، ضدّ منشأة عسكرية شرقي سورية، في خرق، لم يسبقه أي استفزاز من جانب دمشق، للسيادة السورية والقانون الدولي، والذي يبدو أن إدارة بوش قد وافقت عليه.
ولا شكّ أن الأعمال العسكرية الفائقة البراعة هذه هدفها تذكير واشنطن – ولا سيما المجتمع الاستخباراتي – بأنه رغم الاخفاق التام في الحرب على لبنان، تبقى إسرائيل طرفاً استراتيجياً مهماً في «الحرب الشاملة على الإرهاب» التي تشنها الولايات المتحدة.
علاوةً على ذلك، قد تكون وراء اغتيال عماد مغنية أسباب تنطلق من سياسات إسرائيلية داخلية. فربما كان أولمرت بحاجة لردّ اعتباره أمام الجمهور الإسرائيلي بعد أن وجّهت لجنة فينوغراد اتهاما شديداً لقيادته في حرب سنة 2006.
ومن جهته، قد يشعر باراك بالحاجة إلى إظهار صورة خارقة مقابل السطوة الشديدة التي لا يزال يملكها كبير الصقور، بنيامين ناتنياهو، على العديد من الإسرائيليين. ومن المرجح أن يكون زعيم اللّيكود الخصم المباشر لباراك في الانتخابات المقبلة. إلا أنه ربما يجدر البحث عن تفسير آخر وسط هذا الجدال الحاد الذي يدور حالياً داخل مؤسسات الدفاع والأمن الإسرائيلية، حول الطريقة الفضلى للتعاطي مع «حزب الله» و «حماس»، وهما الجهتان العسكريتان غير الحكوميتين والفاعلتين على الحدود المباشرة مع إسرائيل.
هذه الحركات، المتجذّرة بين الشعبين اللّبناني والفلسطيني، تشكّل صعوبةً خاصةً بالنسبة للجيش الإسرائيلي. وكما أظهر التاريخ الحديث، فمن الصعب هزيمتها بالوسائل التقليدية. فمحاربتها تقتضي القيام بعمليات هجوم مضاد اكثر من شن حرب تقليدية.
تتلهف إسرائيل لاستعادة «قدرة الردع» القيّمة جداً لصد هاتين الحركتين المعاديتين لها. وتسعى لصرفهما عن التجرؤ على مهاجمة أهداف إسرائيلية من خلال رفع كلفة الهجمات الإسرائيلية المضادة أو الهجمات الوقائية، كما هي الحال في قتل مغنية.
إلا أن الضرّر الكبير الذي لحق بلبنان سنة 2006 فشل في إخضاع «حزب الله» (رغم أن مقاتلي الحزب أجبروا عبر الضغط الدولي على الانسحاب من المنطقة الحدودية مع إسرائيل)، في حين أن العقاب الشديد المستمر على غزة وسكانها البالغ عددهم مليوناً ونصف المليون – والغارات اليومية والحصار القاسي – لم تمنع صواريخ القسّام المحلّية الصنع من السقوط على مستوطنة سديروت الاسرائيلية.
تتسبّب هذه الصواريخ بإصابات قليلة – على الأكثر يقتل إسرائيلي واحد مقابل مقتل 40 فلسطينيا – إلا أنها تجعل الحياة صعبة على الاسرائيليين في مدن النقب، وتضع حكومة أولمرت تحت ضغوط كبيرة لاتخاذ خطوات بهدف وقف الصواريخ.
كيف ممكن التقاط المبادرة في هذه الحرب غير المتساوية التي يشنها «حزب الله» و «حماس»؟ انه التحدّي المباشر لإسرائيل. فهي تبدو متردّدة في شنّ عملية كبيرة على الأرض ضد غزة، فكيف إذا تعلّق الأمر بتكرار الحرب على لبنان؟ وبالتالي، فمن المرجح أنها اعتبرت عمليات الاغتيال الطريقة الفضلى للمواجهة.
رغم أن عمليات القتل هذه قد تؤدّي إلى هجمات انتقامية، إلا أنه في الحسابات الإسرائيلية، تستحقّ تلك المخاطرة الخوض فيها، مقارنةً مع الخسائر الحتمية التي قد تقع في حال شن عملية عسكرية كبيرة، هذا إذا وضعنا جانباً تهديد الصواريخ الذي يستهدف المدنيين شمال إسرائيل.
إذا صحّ هذا التحليل، فلا بدّ من اعتبار اغتيال مغنية بديلا عن حرب واسعة النطاق، وليس مقدمة لحرب أخرى، كما يخشى العديد من العرب. تسعى إسرائيل لثني «حزب الله» عن استفزازها إلى صراع آخر مشابه لحرب سنة 2006 المشؤومة.
ثمة تفسير آخر ممكن للاستراتيجية الهجومية الفظة التي تتبناها إسرائيل مقابل خصومها العرب. فقد رفضت الدولة اليهودية بشكلٍ حازم استدراجها إلى محادثات سلام جدية مع سورية أو الفلسطينيين – أو حتى إلى وقف إطلاق نار طويل الأمد على غرار الذي اقترحته «حماس» – لأن أي تسوية سلام ستقتضي حتما تنازلات تتعلّق بالأرض.
وبهدف تفادي إعادة الأرض – وهو الثمن الذي يطالب به العرب مقابل السلام والعلاقات الطبيعية – تبنّت إسرائيل استراتيجية تقليدية تقضي بجعل المحيط العربي راديكاليا. فليس لدى اسرائيل وقت مثلاً للتعاطي مع الفلسطينيين «المعتدلين» الذين يريدون التفاوض. فمحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية السيئة الحظّ، سيخضع لضغوط كبيرة كي يحصل على مجرد تجاوب ضئيل من قبل إيهود أولمرت.
يبدو أن إسرائيل تفضل أن تبقى محاطة بحركات راديكالية على غرار «حزب الله» و «حماس» (التي كان لإسرائيل دور في إنشائها)، سيما أن القادة الإسرائيليين يحبون تكرار نغمة: «كيف يمكن التفاوض مع من يريد قتلك؟»
والإجابة هي بقتله أولاً.
كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط
الحياة – 22/02/08