ترغيب دمشق عربياً يصطدم بعقبة مطالبها في لبنان
نيويورك – راغدة درغام
يزداد الكلام عن معلومات استخباراتية تزعم ان الخلاف قائم داخل الحكم في دمشق، وبعضها يقول إن هناك مؤشرات على استعداد لتقبل العروض. هناك من يأخذ هذه المعلومات بجدية ويوليها أهمية ويحض على التجاوب مع البوادر لتشجيع أي تغيير ايجابي آتٍ، لا سيما إذا أدى الى إضعاف اشخاص اقترنت اسماؤهم بنشاطات استخباراتية.
وأصحاب هذا الرأي يجدون في التجاوب إنقاذاً لسورية من العقاب الجماعي. انما هناك معسكر له رأي مختلف تماماً يقول إن النظام متماسك ومتلاحم وإن تلك الرسائل والمؤشرات التي يُزعم أنها معلومات استخباراتية هي بتدبير منه، وذلك لاعطاء هذا الانطباع الهاء للآخرين، ومن أجل شراء الوقت واستهداف المؤسسات اللبنانية، وبهدف اللعب على المخاوف العربية. مهما كان وراء ازدياد مثل هذا الكلام، ان ما يرافقه من شبه حروب استخباراتية في المنطقة يأخذ المخاوف الى منحى جديد. فهناك من يحذر من «فلتان استخباراتي»، بعضه بين الدول وبعضه الآخر داخل دول معينة. اغتيال عماد مغنية، المسؤول العسكري لـ «حزب الله»، في دمشق أثار موجة من الافتراضات والتوقعات بعمليات انتقامية من قِبَل كل من «حزب الله» وإيران يمكن أن يدفع لبنان ثمنها بصفته ساحة الحروب بالنيابة. ما لفت الانتباه هو ما مرت به العلاقة بين سورية وايران و «حزب الله» فور ورود نبأ الاغتيال، وما برز من كلام الاستخبارات حول علاقة «حزب الله» مع «القاعدة» عبر مغنية وما تردد عن خطط اسرائيلية لاختلاق الحروب الانتقامية مع «حزب الله» لاستعادة سمعة «الانتصار» بعدما كانت خسرتها في حرب تموز (يوليو) في لبنان. هذه التطورات ترافقت مع تأكيد الغالبية اللبنانية بأنها مع الدولة ومؤسساتها وهي تخرج بأكثر من مليون نسمة في يوم ممطر لتقول: لا لحكم الميليشيات، ولن نخافكم ولن نخاف من يدعمكم إن كان في دمشق أو طهران، واننا مع حكم الدولة. ترافق هذا مع إيضاح جميع المرشحين للرئاسة الأميركية، وكذلك الادارة الحالية، مواقفهم نحو لبنان التي حسمت الدعم الكامل للمحكمة الدولية وعدم طرحها للمساومة والتي أوضحت أن المرشحين بدأوا يفهمون أهمية لبنان في المعارك المصيرية لمنطقة الشرق الأوسط.
القيادات العربية ما زالت تبحث عن إبرة البوصلة مع دمشق وهي على يقين بأنها لن تعثر عليها. جزء من القيادات العربية يتحدث بلغة المصالح الثنائية، وضرورة التأثير على النظام في دمشق لاقتلاعه من الحضن الايراني. طرف آخر استنتج ان لا أمل بتغيير الأنماط والأهداف السورية، ان كان في علاقتها مع ايران أو في لبنان وفلسطين، وهو يخشى أبعاد وافرازات مكانة دمشق كعاصمة رئيسية للتلاقي أو التنافس بين الأجهزة الاستخباراتية ومنظماتها التابعة لدول أو تلك الخارجة عن الدول والسلطة.
تميّز دمشق باستضافة المنظمات والأجهزة الاستخباراتية ليس أمراً جديداً بل هي طالما استخدمت ما تملكه من منظمات وأجهزة استخبارات في صوغ علاقاتها الاقليمية والدولية. فدمشق افترضت مكانتها دوماً بأبعد من الحدود السورية وعملت على أساس التلاعب بالجيرة اللبنانية والفلسطينية والعراقية لتثبت مكانة اقليمية لها تجعل الدول الكبرى تأخذها بجدية.
بعض القيادات العربية يشعر بأن في وسعه ترغيب القيادة السورية بالتعاون مع المتطلبات العربية من خلال ترغيبها بـ «جزرة» الاستثمارات والأموال الى فك العزلة العربية والدولية عن دمشق. ويرى هذا البعض ان الترغيب بـ «الجزرة» العربية لا بد منه لا سيما أنه ليست هناك «عصا» اميركية جدية في وجه سورية بسبب الفيتو الاسرائيلي، والسبب أن النظام السوري في نظر واشنطن هو صمام الأمان الذي يحول دون حكم اسلامي أو قومي يفعّل المقاومة عبر الجبهة السورية – الاسرائيلية.
ما تواجهه القيادات العربية الراغبة بترغيب دمشق هو استحالة التفاهم بالذات على المسألة الرئيسية والأساسية لسورية، وهي لبنان. الاستحالة ليست فقط بسبب المطالب السورية وانما هي ايضاً بسبب خروج أهم «جزرة» من الأيادي العربية.
فما أرادته القيادة السورية أكثر من أي شيء آخر هو اضمحلال المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لمعاقبة الضالعين في اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ورفاقه والاغتيالات السياسية الأخرى التي قد يثبت التحقيق ارتباطها بهذه الجريمة الارهابية، كما صنفها مجلس الأمن الدولي الذي اتخذ قرار إنشاء المحكمة. فلقد تم وضع كل اسس واركان هذه المحكمة وباتت المحكمة واقعاً «لا عودة عنه» و «غير قابلة للابطال» كما قال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. وبهذا، خرجت المحكمة عن انماط المقايضات والمساومات والتماطل والاحلام السورية بتبخرها بشكل ما.
بحسب مسؤول عربي كبير، لم تعد مسألة المحكمة بنداً او شرطاً في المحادثات السورية مع القيادات العربية والغربية. فلقد توصلت الحكومة السورية الى الاستنتاج أن هذه المرحلة تتطلب الابتعاد عن حديث المحكمة – حتى إشعار آخر – بعدما توضح لها أنها خسرت معركة وضع العصا في عجلات المحكمة. هذا لا يعني الخضوع أمامها كأمر واقع لا سيما وأن التحقيق الدولي سرّب منذ حوالي سنتين أسماء مسؤولين سوريين كبار مشتبه بهم في التورط باغتيال الحريري.
ما تركز عليه الشروط السورية في هذه الحقبة، بحسب هذا المسؤول، هو مصير الحكم في لبنان. العرب يدعون سورية الى الكف عن تعطيل اجراء انتخابات رئاسية في لبنان واعطاء الضوء الأخضر لحلفائها في لبنان للعدول عن سياسة اختلاق الفراغ الرئاسي. القيادة السورية تريد استضافة القمة العربية الشهر المقبل في دشمق لفك عزلتها وتريد ان يحضرها أكبر عدد من القادة العرب. لذلك، قد تلبي طلب تسهيل انتخابات رئاسية لبنانية، ولكن بشروط تعجيزية.
ما تريده دمشق الآن هو ان تقايض الافراج عن الرئاسة بتكبيل أيادي الحكومة. تريد حكومة مشلولة لا قدرة لها على الحكم. تريد ضمانات بسلامة «حزب الله» وعدم التطرق الى سلاحه وتصرفه كدولة داخل الدولة. وتريد عدم تنفيذ القرارات الدولية الداعية الى تجريد جميع الميليشيات والمنظمات اللبنانية وغير اللبنانية من السلاح. وتريد أن يمضي تهميش المؤسسات اللبنانية الديموقراطية بصورة متماسكة وجذرية، فيما تقدم للعرب حسن النية المكبل بقضم المؤسسات التي تضمن استقلال لبنان.
فدمشق تريد استمرار المقاومة من لبنان – وليس من الجولان – وتريد ضمانات بعدم توطين الفلسطينيين كي لا تهتز المعادلة المذهبية، وتريد أن يبقى لبنان مرتهناً لها بلا سلام، إلى حين توقيعها هي السلام مع اسرائيل. فدمشق ما زالت تمتلك عقلية الملكية للبنان، وهي تريد إقراراً عربياً بما تعتبره «حقاً» لها بتدجين دائم لـ «الشقيق» اللبناني لاستخدامه كعمق استراتيجي لها وحديقة خلفية لنشاطاتها المتفرعة عبر منظمات متهمة بنشاطات ارهابية ومؤسسات استخباراتية.
ففي الساحة اللبنانية إمدادات ضرورية لسورية على صعيد ما تسميه بـ «منطق المقاومة»، وهو ليس سوى تسويق لمنظمات وميليشيات من بينها فصائل فلسطينية لمقاومة السلطة الفلسطينية ومنظمات منشقة عن أو تابعة لـ «القاعدة»، ومتطوعين انتحاريين وشبكات استخبارات متعددة المواهب والإمكانات، وأيضاً «حزب الله» الذي لسورية معه علاقة هيكلية على رغم ولائه الأول لإيران. فدمشق لا تبالي إذا تحول لبنان إلى قاعدة إيرانية، عبر «حزب الله»، لكنها تفضل أن يكون لها نفوذ شبه مستقل إذا أمكن. وقد لا يكون ذلك ممكناً بعد الآن. وهذا ما يضيف إلى القلق الذي يعبر عنه صمت القيادة السورية بينما هي توحي بأنها في منتهى الثقة والارتياح.
ما قد يؤدي إلى تفكيك الفكر السوري السائد ليس بالضرورة فهم الرسائل العربية والتجاوب معها وتلبية التوسلات إليها بإطلاق سراح لبنان والعودة إلى الحظيرة العربية. الأرجح أن ما سيفكك هذا الفكر هو الأخطاء التي يمكن أن ترتكبها القيادة السورية. فلقد سجلت هذه القيادة «انجازات» فظيعة في الأخطاء، من أبرزها الإصرار على تعديل الدستور اللبناني لتمديد ولاية الرئيس السابق اميل لحود والذي أدى إلى اصدار مجلس الأمن القرار 1559 الذي أرغمها على الانسحاب من لبنان. ثم هناك خطأ الافتراض بأن منع البرلمان اللبناني من الانعقاد والتصديق على اتفاق ونظام المحكمة الخاصة مع الأمم المتحدة سيؤدي إلى اجهاض المحكمة. فلقد أدى ذلك الخطأ إلى انشاء المحكمة بموجب قرار ملزم لمجلس الأمن ظنت القيادة السورية – مرتكبة خطأ آخر – أن روسيا ستمنع تبنيه باستخدامها حق النقض. لكنها لم تفعل.
ما يحاول بعض القيادات العربية أن يفعله هو اثبات العزم والجدية في الملف اللبناني عند التحدث مع القيادة السورية، أو التحدث عنها مع حكومات دولية فاعلة. هذه القيادات تريد إبراز مركزية الملف اللبناني في الاعتبارات الاقليمية. وما يساعدها في ذلك هو المواقف الدولية الواضحة، وما يضعفها هو الوهن الذي يصيب بعض الأطراف الدولية، كفرنسا مثلاً ووزير خارجيتها برنار كوشنير.
إنما المشكلة الأساسية لهذه القيادات هي، بحسب تعبير مسؤول عربي: إذا لبوا، ما المقابل؟ واذا لم يلبوا، ماذا نفعل؟ وهذا تماماً ما يتحكم الآن بأحاديث الحزم مع سورية، عربياً ودولياً وأميركياً.
واضح أن المحكمة خرجت عن معادلة «المقابل»، وأن عنواناً أساسياً في معادلة «الفعل» هو واشنطن، حيث أدوات التهديد الجدي لدمشق في حال استمر تعنتها واستمرت على سياساتها.
واشنطن ليست مستقلة عن القرار الإسرائيلي عندما يتعلق الأمر بدمشق، وهذا ما يكبلها. إنما هناك مؤشرات متزايدة الى اختلاف في التقويم الأميركي عن التقويم الاسرائيلي عندما يتعلق الأمر بلبنان. هناك من يقرأ بين سطور التطورات الأخيرة استعدادات لمعارك آتية إلى المنطقة، عبر البوابة اللبنانية، جزء منها يتمثل في حرب نوعية جديدة بين إسرائيل و «حزب الله»، وجزء منها له بعد مع علاقات سورية بالمنظمات التي تأويها أو تستخدمها، في الأراضي السورية كما في لبنان.
بعض العرب ينبه طهران ودمشق إلى عواقب الاستمرار في الاستفزاز وتفجير الأوضاع في لبنان على سورية وإيران وحلفائهما في لبنان. يقولون لدمشق إن افراطها قد يؤدي إلى ضرب مصالحها هي أيضاً. ويقولون لطهران إنهم ضد الضربة العسكرية الأميركية أو الإسرائيلية لإيران، إنما التصرفات المستمرة في لبنان، وكذلك في فلسطين، قد تؤدي إلى ضربة.
فكما يريد العرب انتخابات رئاسية للبنان، يريدون ايضاً عودة غزة إلى حظيرة السلطة الفلسطينية، ولو شكلياً، وهم يعرفون أن المفاتيح الأساسية في ايادي دمشق وطهران.
ولكن، ليست جميع المفاتيح خاضعة للإرادة والمخططات الإيرانية والسورية والإسرائيلية، بل هناك ما يثلج الصدر من عزيمة شعبية ومن قيادات غير اعتيادية في الساحة العربية – ولبنان نموذج يُؤخذ به على رغم كل المخاطر والصعوبات.
أولئك المليون وأكثر الذين خرجوا إلى الشارع في الذكرى الثالثة لاغتيال رفيق الحريري إنما نفخوا الحيوية والعزم على منع ايقاف المسيرة الديموقراطية الفريدة في العالم العربي. إنه تكليف جديد للدولة وللحكومة برئاسة فؤاد السنيورة وللأكثرية النيابية وللقيادات الموالية للحكومة التي ترفض السماح بانتصار حكم الميليشيات التابعة لدمشق وطهران وتحكمها مهما زعمت من أرضية لبنانية. يثلج القلب أن هناك قيادات شيعية لبنانية ترفع صوتها لتقول لـ «حزب الله» إن لا حق له بالهيمنة والسيطرة على الصوت الشيعي اللبناني المستقل عن إيران، وإن لم تنظم نفسها لكسر حلقة تلك الهيمنة.
لقد سبق وامتلك شعوباً عديدة في المنطقة الرعب من الحكم الاستخباراتي. اليوم هناك مؤشرات على ارتداد أدوات الاستخبارات وعلى حالة الذعر والرعب بين الذين صنعوا مجدهم عبر تلك الأدوات.
الحياة – 22/02/08