صفحات سورية

فاشيّون عابرون وفاشيّون إلى الأبد

null
موفق نيربية

الفاشيّون يحتقرون «الضعفاء»، لأنهم أخذوا السلطة بالقوة والقهر لا عبر أصوات الناخبين، وقد ظهر القائد المنقذ لهذه الجماهير الضعيفة، لتصبح قوية في نعمة وجوده وحسب. ولا بدّ للجميع أن يكونوا أبطالاً جاهزين لاستقبال الموت بصدورهم، أو الذهاب إليه إن لم يأت بنفسه.

من إيطاليا الفاشية جاءت إلى كتبنا المدرسية حكاية الأب الذي أوصى أولاده على فراش الموت بأن يتمسّكوا بوحدتهم، من خلال تلك العيدان التي لا تتكسّر حين يجتمع عديدها معاً. والحكاية جميلة، لكنها فاشيّة رغم ذلك!

بعد ربع قرن من ظهور «العصبة الصقلية» (عصبة = فاشي بالإيطالية)، ازدهرت الفاشية مع موسوليني، الذي يقول إنها «الجناح اليميني للإيديولوجيا الجَمعية، في مواجهة الاشتراكية والليبرالية والديموقراطية والفرديّة».

لكن تعريف باكستون هو الأحدث، وفيه أنها «شكل للسلوك السياسي مسكون بهاجس انحطاط جماعته البشرية، ومهانتها، ومشاعر الضحية التي تتملّكها، وبعبادات تعويضية تتوجه نحو الوحدة والقوة والنقاء». وأضاف في ما بعد شيئاً حول جوهرها بأنه «إحساس طاغٍ بالأزمة التي تتجاوز في حجمها إمكانية الحلول العادية، والإيمان بالانتماء إلى جماعة-ضحية يمكن تبرير كلّ ما تقوم به من دون عوائق تشريعية أو أخلاقية، والحاجة إلى قائد فوق القانون، وحق الشعب المختار في الهيمنة، والخوف من (التلوّث)».

كنّا نشكو من إطلاق الاتّهامات جزافاً بالفاشيّة في أيام ولعنا بالأفكار الثورية من مختلف تلويناتها، ولم يكن ذلك تهرّباً من الوصمة بمقدار ما كان التصاقاً بتجارب أخرى نرى أنفسنا فيها، اشتراكية أو قومية أو تحرّرية، تلتزم الشكل العصبويّ والانضباط نفسه.

مرّ جورج أورويل بمثل حالتنا هذه، قبل صدور روايته «1984» ببضع سنوات، فقد أثاره استطلاع للرأي حول تعريف الفاشية تراوحت إجاباته بين كونها «الديموقراطية الصافية» إلى «الشيطانية الصافية». وقال إنه يسمع تعابير «الفاشيّ بالعاطفة»، و«الفاشيّ بالميول» أو «الفاشيّ» مجرّدة من الصفة، تُطلق على طيف واسع من الناس والأفكار، يضمّ المحافظين والاشتراكيين والشيوعيين والمتديّنين وأعداء الحروب وأنصارها إضافةً إلى القوميين بالطبع. كما سمعها تُطلق أيضاً على الفلاحين والبقالين ولجان التحقيق الوطنية وكبلنغ وغاندي وعلم الفضاء والنساء وغيرها، ليستنتج أن الناس تعني بطريقة استخدامها للكلمة شيئاً «قاسياً ومتغطرساً وظلاميّاً، معادياً للحرية وللطبقة العاملة».

وهذا قديم، قاله أورويل بين هزيمة موسوليني وهزيمة هتلر، نحن نعيش زمناً مختلفاً، وليس مختلفاً. فمازال المفهوم حيّاً بأشكال أخرى، إذ يقول أمبرتو إيكو، عالم الدلالات وصاحب رواية «اسم الوردة»، أنّه قد تطوّر وفشا واكتسب ملامح جديدة، يمكن أن تُسمّى باسم «الفاشيّة الأبدية»، في مقالة مهمة نشرها عام 1995 تحت عنوان «أربع عشرة طريقة للبحث في قائمة سوداء». وهذه المقالة تحتوي على مزاج الكاتب وتهويماته الخاصة، إلاّ أن لها طعماً تحت ألسنتنا.

تتميّز الفاشيّة الأبدية كما يراها بعديد من السمات، أوّلاها عبادة التقاليد والتراث، الجامعة ما بين «القدّيس أوغسطين ونُصُب إنكلترا الحجرية»، أو ما بين المعتزلة وسوق عكاظ، أو صلاح الدين والسهروردي.

وكذلك برفض الحداثة، واعتبار التنوير علامة على بداية عصر الفسوق المعاصر، واعتماد النزعة المعادية للعقلانية، وتعتمد مفهوم «الفعل من أجل الفعل»، لتحتقر من خلاله الثقافة، أوتمتشق «المسدّس حين تسمع كلمة ثقافة» كما كان يردّد غورينغ. وتُطلق النعوت على المثقف من «المنحطّ» إلى «الهامشي» إلى «المغرور» و«الضعيف القابل للشراء». ويصبح مألوفاً سماع المثقف «الرسمي» يتهم الآخر بأنه خائن للوطن والأمة.

وفي حين تقدّر الثقافة الحديثة الاختلاف، فإن الفاشيّة المذكورة تعتبره خيانة لوحدة الشعب والوطن وتاريخ التميّز والانتصارات، وهي لا تتغذّى إلاّ من إحباطات الفرد والجماعة، لتغذّيهما من ثَمّ بمشاعر الذل أمام فخار وقوة وثروة الأعداء.

إنها مسكونة بهاجس المؤامرة الدائمة المستمرة، ولا ترى أن الكفاح من أجل الحياة بل الحياة من أجل الكفاح، فالجنوح إلى السلم تعامل مع العدوّ، والحياة حرب دائمة لا يخمد أوارها.

الفاشيّون يحتقرون «الضعفاء»، لأنّهم أخذوا السلطة بالقوة والقهر لا عبر أصوات الناخبين، وقد ظهر القائد المنقذ لهذه الجماهير الضعيفة، لتصبح قوية في نعمة وجوده وحسب.

ولا بدّ للجميع أن يكونوا أبطالاً جاهزين لاستقبال الموت بصدورهم، أو الذهاب إليه إن لم يأت بنفسه. (كان شعار الكتائب الإسبانية أنصار فرانكو « يحيا الموت!»). هم شعبيون أو شعبويون كما يُقال، ومعادون بقوة لتلك «البرلمانية العفنة» الغربية.

ولعلّ أسوأ ما يُميّزهم -بالنسبة إلى أمثالنا على الأقل- هو لغتهم. تلك اللغة الفقيرة المحدودة المحشوّة بالإيقاعات والرتابة، الهاربة من التركيب والتفكير والنقد والعقل.

أصغ قليلاً -لو سمحت- إلى إذاعتهم أو تلفزيونهم، أو اقرأ -لو استطعت- صحيفتهم، أو جادل -لو اضطررت- مسؤولاً منهم أو ناطقاً ما، واعرض لغتهم على مصفاة ما للجمل والكلمات، تعرف واحدة من ظواهر الفاشيّة الأبدية.

ليس هذا من عندي، إلا قليلاً، وليرجع من يريد التأكّد إلى أمبرتو إيكو!

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى