صفحات ثقافية

يملك فن “عدم الخضوع”

null
صلاح هاشم
يوسف شاهين، هو ببساطة، هرم من أهرامات مصر الثقافية. انه أشهر مخرج مصري وعربي في العالم بأسره وأهمّهم. أفلامه هي كنز من كنوز مصر الثقافي السينمائي العريق. انه “بوابة” ثقافية عملاقة إلى تاريخ هذا البلد مصر، الذي أنجبنا، وحضارته. أفلامه في مجملها، تنضح عذوبة وحلاوة بحب هذا الوطن، الذي ينتمي اليه باعتزاز، وعشق أهله في بر مصر العامرة بالخلق. أعماله لا تقدّم أعظم “بانوراما”، أو مسحا دقيقا شاملا، لتاريخ مصر الثقافي والاجتماعي والسياسي، كذلك للتطورات والتغييرات التي طرأت عليه فحسب، بل ان أفلاما عملاقة من توقيعه، مثل “الأرض” و”حدوتة مصرية” و”العصفور” و”باب الحديد” و”اسكندرية… ليه؟” و”الناصر صلاح الدين” وغيرها، دخلت تاريخ السينما باقتدار من بابه الاوسع، وتعدّ الآن من كلاسيكيات السينما الكبيرة.
إن جو هو الأب الروحي للسينما العربية الحديثة، بأسلوبه السينمائي الذي استحدثه. وهو المؤسس لهذه “السينما الحديثة” منذ بداية الستينات من القرن الفائت، في أفلام مثل “الاختيار” و”عودة الابن الضال” التي تتجاوز حدود الوطن، وتستشرف – بعد هضم وتمثل – انجازات السينما الحديثة على مستوى المضمون، في أعمال فيلليني وانطونيوني من ايطاليا، وجان – لوك غودار من فرنسا، ورواد “الموجة الجديدة الفرنسية” في أواخر الخمسينات. سينما تستشرف آفاق المستقبل وتتجاوز الحكاية التقليدية المكررة المعادة، لكي تبحر في “سينما الحداثة”، وتدلف الى داخل المياه من دون خوف او وجل.
شاهين المتمرد على كل أشكال القهر والرقابة وظلم السلطة – هذه السلطة التي لم تنجح قط في تدجينه لكي يشتغل لحسابها، هو أيضاً مؤسس تيار “المكاشفة وسؤال الذات”؛ سينما الأنا في “اسكندرية… ليه؟” و”اسكندرية كمان وكمان” ثم في “اسكندرية – نيويورك”، التي تطرح مشاكلها الذاتية والفردية، وتتواصل من خلال هذه المكاشفة تواصلاً جريئاً مع الآخر، وتعانق- حين تنطلق من أسرها – الوجود كله.
سينما المتناقضات هذه، التي يمثلها شاهين، هي سينما سياسية في الدرجة الأولى، لأنها تكشف من خلال أزمة الذات والوطن، بحثا متواصلا عن “هوية”، وهي تستكشف تناقضات المجتمع المصري، في مناخات القمع السياسي والفكري، والديموقراطية المجهضة وغياب المشروع القومي. لذلك، نستطيع القول إن شاهين هو رفاعة الطهطاوي السينما، ليس في مصر وحدها بل في كل أنحاء العالم العربي. ففي حين يعتبر الطهطاوي (1801 – 1873) رائد نهضة مصر الحديثة، يجيء حفيده شاهين من بعده، ليؤسس لـ”رفاعة مصري سينمائي جديد”. فبعدما سافر شاهين الى الولايات المتحدة، وعاد منها حاملاً حلم التغيير والنهضة، مثل جده الطهطاوي العظيم، وفرش بساط السينما الحديثة في مصر، وساهم بأفلامه – كما حقق الطهطاوي بنضاله وكتبه وأفكاره وتشييده “صرح” مدرسة الالسن – في دخول السينما المصرية الى عالم جديد، وعصر جديد، وجعلها تتواصل مع العالم.
جرّب شاهين الأنواع السينمائية كلها، وحقق أفلاماً ممتازة ضمن كل نوع، كما كانت الحال مع فيلمه “جميلة” (النوع السياسي المناهض للاستعمار) وفي “بياع الخواتم” و”سكوت… ح نصور” (الكوميديا الموسيقية)، والفيلم الذي انتجته الفنانة آسيا “الناصر صلاح الدين”، وأيضاً “وداعاً بونابرت” و”المهاجر” (النوع التاريخي)، وكلها أفلام شامخة في صنفها. علماً أن سينماه صارت في ما بعد، هاربة من حدود النوع، وأكثر انفتاحاً على كل التصورات والاحتمالات والرؤى، وتالياً أكثر اثارة للمناقشة والجدال.
لم يهدأ شاهين البتة. كانت ماكينته السينمائية مثل الساقية تدور على طول، وكأنها الرئة التي يتنفس منها، وحرمانه منها كان يعني الحكم عليه بالموت. لذلك كان شاهين مشغولا ومهموما دوماً بصنع الافلام، ولم يتوانَ عن النفخ من روحه في نفس تلك الأجيال الجديدة التي نهلت من دروسه وتجاربه وخبراته، من أمثال يسري نصر الله (“مرسيدس”)، ورضوان الكاشف (“عرق البلح”) وعاطف حتاتة (“الأبواب المغلقة”). هذا الجيل وعى درسه الحداثي وتعلم منه ومن ذكائه. وكانت أفلام شاهين، حتى من دون ان تلتقيه، “كائنات حية” أو “كيانات حية”، مشحونة بالتأمل والفكر، ومعجونة أو بالاحرى مخبوزة في فرن شاهين، هذا الاسكندراني المشبع بالأسى والهم والفن والضجر والتهكم والتمرد. سينماه حملت “هوية” مصر الجديدة، الآن في اللحظة، أساها وهمها، ضياعها وحزنها، كذلك تمردها على اليأس والظلم والقهر. ثم راحت تطوف العالم، فأصبحت سفيرة لنا في أنحاء الدنيا، ومنحت دور الريادة في الفن السينمائي لمصر، وهي تشمخ بـ”الفن” الشاهيني، ومن دون ان يستطيع احد ان ينتزع من مصر هذا الشرف، لأن قدر مصر كان هكذا وسيبقى هكذا.
قدر مصر أن تكون في مقدمة المسيرة، من خلال فنانيها السينمائيين والكتاب والمبدعين. وأن تكون في طليعة النهضة والثورة والتمرد على الظلم، أي في طليعة العطاء والكرم المصريين الاصيلين. وقد كانت مصر منذ أقدم العصور، ومن دون شوفينية مغرضة “ضمير العالم”، كما يذكر بريستيد. مصر تلك الساهرة على إنسانيتنا، وكانت أول من فتح حضنه للمشردين والمنفيين والمعذبين والغرباء في اوطانهم، وحتى داخل جلودهم، وهي تقول لهم أهلاً ومرحباً، وكان ولا يزال هذا دورها وقدرها: أم الدنيا…
تحتاج أفلام شاهين (بالذات) الى أكثر من مشاهدة، ذلك لأنها أفلام تحرض. بعد استمتاعنا بقيمتها الفنية وجمالياتها الخاصة (انظر مثلاً الى تكوين الكادر في أفلامه الذي يحتاج وحده الى رؤية معمقة وتحليل ودراسة مستقلة لا يتسع المجال لها هنا). سينماه تحرض على التفكير، وتحضّنا على التعبير بجرأة مذهلة، بل ولا تستنكف عن الوقاحة في بعض الاحيان، وأيضاً العنف. لكن أليس العنف الواقع علينا، من طرف السلطات والحكومات أكثر قسوة وعنفاً وتوحشاً ودموية من عنف السينما ووقاحتها؟ سينماه علّمتنا منظومة من القيم، لعل أهمها التسامح. أفلام شاهين كانت وستبقى “مدرسة”، مدرسة تشرّع أبوابها لأجيال السينما العربية الجديدة، لكي يتعلموا فيها أبجدية الفن السينمائي، ورهافة الصنعة. يتعلموا فيها ليس فن السينما فحسب، انما “فن عدم الخضوع” أيضاً.
وداعاً شاهين، وداعاً لقطعة شامخة وعملاقة من هذه البلاد التي نعشق، ومؤسسة فنية وسينمائية راسخة، ومتوهجة و”منورة بأهلها”، ومتجددة دوماً بالنماء والعطاء والمعارف الجديدة.
( مخرج وناقد سينمائي – باريس)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى