أفلام يوسف شاهين
حسن مدن
في مطالع السبعينات الماضية كانت سنوات قليلة فقط قد انقضت على هزيمة الخامس من حزيران / يونيو ٧٦٩١ التي هزت النفوس والعقول، وكادت أن تصيب في مقتل أحلام الكثيرين. يومها بدأت سلسلة من المراجعات النقدية، السياسية والفكرية، لتمحيص الأسباب التي قادت إلى الهزيمة. كتب صادق جلال العظم » النقد الذاتي بعد الهزيمة«، ومن ثم»نقد الفكر الديني«، وسعت الحركات القومية لتخطي شرنقتها الشوفينية، والانفتاح على الفكر الديمقراطي التقدمي، لكنها سرعان ما وقفت في منتصف الطريق، وعادت اليوم تجاهد لطي صفحة المراجعة هذه من تاريخها، لا بل وتعتبرها نقيصة يتعين التبرؤ منها. كنا وقتها تلاميذ في المدارس، ولكن أذهاننا ابتدأت تتفتح على ذلك الوعي النقدي الذي طبع المرحلة، وفي تلك الأثناء شاهدت الفيلم الشهير ليوسف شاهين:»العصفور«، وما زلت أذكر الأداء المدهش للفنانة محسنة توفيق فيه، وهي تنطلق غاضبة إلى الشارع، حين أعلن الزعيم جمال عبد الناصر تنحيه من منصبه، وما زلت أذكر أيضاً الصوت الرخيم للراحل الشيخ إمام وهو يؤدي أغنية:»مصر يمه يا بهية« على خلفية بعض مشاهد الفيلم. كان ذلك الفيلم شهادة على الهزيمة وإعلان رفض قاطعٍ لها، في سياق المراجعة النقدية التي أرادت أن تتخطى الهزيمة وتؤسس للمستقبل، ثقة في مقدرة الناس على أن يصنعوا ما يبدو مستحيلاً، وأن يبقوا من التاريخ منفتحاً على أفقٍ جديد. في العام ٥٧٩١أصبحت طالباً في جامعة القاهرة، وكان أن حضرت أسبوعاً لأفلام يوسف شاهين، رافقته ندوات تطبيقية، فاكتشف عالم هذا المخرج، الذي توالت تجاربه في العقود التالية وازدادت نضجاً فنياً، وهو يتتبع متغيرات العالم وتحولاته بعينٍ فاحصة. من الإسكندرية التي عاد إليها جثمانه أخيراً ليرتاح في تربتها الطيبة انطلق يوسف شاهين إلى مصر كلها، ومنها إلى العالم. وظلت الإسكندرية، هذه المدينة الرائعة، التي كانت ملتقى للثقافات والحضارات والجنسيات المختلفة حاضرة في روجه وقلبه، حياها بأكثر من فيلم، وهو يروي تاريخ مصر المعاصر من خلال سيرته الذاتية، كأنه يريد القول انه، بمقدار من المقادير، نتاج روح التسامح والتعايش التي طبعت هذه المدينة التي نشأ فيها. تجربة يوسف شاهين تؤكد القاعدة التي لا يريد الكثير من المهووسين بالعالمية أن يصغوا إليها، وهي أن عالمية الفنان تتحقق بمدى انغراسه في تربة وطنه وقضايا شعبه. كان يوسف شاهين مخرجاً عالمياً، للدرجة التي جعلت قصر الاليزيه الفرنسي ينعاه بعد رحيله، وقبل ذلك كان العالم كله قد اعترف به مخرجاً كبيراً داعياً لحوار الثقافات وتفاعلها، ونبذ الانغلاق والتزمت، ولكن من موقع الانتماء لمصر وللثقافة والتاريخ العربيين. إن أفلامه التي تكاد تبلغ الأربعين فيلما أنجزها خلال ستة عقود من عمره الذي تجاوز الثمانين هي سيرة مصر المعاصرة، في تحولاتها وانعطافاتها، في هزيمتها وفي نصرها، في انكساراتها وفي وعودها.
الحوار المتمدن