هل توقف المشاكس عن الرقص وسكت الصوت عن الغناء؟
بقلم يارا بدر
يوسف شاهين الذي لاعب كل ما هو إشكاليّ
استراح الجسد المشاغب في مثواه الأخير، تاركاً لنا تاريخاً وعلامة ً فارقة ومجداً إنسانياً. عن اثنين وثمانين عاماً انتهى صراع المخرج السينمائيّ يوسف شاهين مع الحياة والسينما والأحلام بعد غيبوبة أرقدته الفراش عدّة أسابيع، ومن أميركا التي غادرها ابن الإسكندرية توقاً إلى امتهان السينما، حتى المشفى الأميركي في فرنسا الذي أملى بإعادة استنطاق الجسد الهامد، بين هذا وذاك سبعة وخمسون عاماً أثمرت سبعة وثلاثين شريطاً سينمائياً روائياً طويلاً، امتدت قرابة الثمانين ساعة.
يوسف شاهين علامة عربية في السينما العالمية، كما يراه من يؤمنون بالجوائز الأوروبية لنيل الاحتفاء العالمي بالجودة الاحترافية، من “الدبّ الفضّيّ” في مهرجان برلين السينمائيّ عن “إسكندرية … ليه” عام (1979)، وحتىّ جائزة “اليوبيل الذهبيّ” في الدورة الخمسين لمهرجان “كان” السينمائيّ العريق، عن فيلم “المصير” سنة (1997)، بين هذا وذاك لم يتوقّف شاهين عن استقطاب الجوائز وإثارة الجدل. وهو كذلك علامة فارقة للباحثين عن الفناّن والمثقف، فالحديث عن أفلام يوسف شاهين هو تطرُّق إلى سينما “شاهينية”، وبمعنى آخر هو تناول لمنهج في الفنّ السينمائيّ تطوّر فيلماً بعد فيلم، قوامه التجريب ومختبره الواقع العربيّ عامّة ً، أمّا أدواته فقد كانت الكاميرا والعين. في حين ترك يوسف شاهين مجال استنباط النظريات الفكرية مفتوحاً لكل دراسة ونقد. سينما تبدو من بعيد كسيمفونية ترتبط كل مقطوعة منها بسياقها التاريخيّ وسياقها الاجتماعي وسياقها السياسيّ ارتباطاً عضوياً كاملاً، حتى إنّ مجموعة أفلام شاهين لتُقدّم صورة عن تغيّرات الواقع العربيّ في مستوياته الثلاثة آنفة الذكر كما يعيها مواطن مثقف يعايش هذا الواقع ويتفاعل معه، منذ أطلق أوّل أفلامه “بابا أمين” عام (1950) حتّى “هي فوضى” (2008).
لم يكن تجديد شاهين في تناوله الواقع كمادة فنية، وإنما في نقطتين تجعلان تناول هذه السينما من الصعوبة بمكان، الأولى هي الزاوية النقدية التي يصوّر واقعه من خلالها، والثابتة كحجر أساس فكريّ في مختلف أعماله. النقطة الثانية هي الاستمرارية العمرية والفنية الطويلة التي سمحت لشاهين الإنسان والمثقف والسينمائي أن يكون شاهداً على الفترة التي نهضت بها الأحلام والثورة والوطن يشهق أولى صرخاته بعد التحرّر من الاستعمار، وكيف تردّينا إلى حالة ربما هي الأكثر عقماً من حيث انحطاطها الفكري وأزماتها السياسية وتردّي واقعها الاجتماعيّ، حتى انتهى الحال بنا إلى الفوضى! في أفلام شاهين سيجد طلبة المدارس جواباً على كيفيّة قبول العرب اتفاقية “سايكس بيكو” و”وعد بلفور”، وكيف سقطت الأندلس وتتالت بهم الهزائم من المغول والأتراك حتى الفرنسيين والإنكليز، كما ستبقى أفلامه وثائق تاريخية عن مصر التي قدّمها بروح ٍ رومانسية باسمة في أفلام من طراز “أنت حبيبي” و”ودّعت حبّك”، إلى مصر الأحلام القومية مع “جميلة بوحريد” و”الناصر صلاح الدين”، ومصر الفكر الاشتراكي كما ناضل لأجلها شاهين من خلال “صراع في الوادي” ضد الإقطاعية المتخلفة، لكن ما لبث أن تكسرت هذه الأحلام مع غفوة جيش مصر على خصر راقصة ليل الرابع من حزيران 1967.
وهكذا تكفي نظرة عابرة إلى أفلام شاهين في الخمسينات والستينات وأفلامه بعد الهزيمة للملمة روح الزمن، ففي السبعينات قدّم شاهين “الأرض- الاختيار- العصفور- عودة الابن الضال- اسكندرية.. ليه”، وهي الأفلام التي أعلنت بقوّة عن مخرج يتميّز برؤيته الإخراجية وحرفيته الفنية، بعد أن نفض الغبار عن السينما العربية على صوت قطار “باب الحديد” عام 1958، الفيلم الذي ربما اضطرّ شاهين نفسه إلى الانتظار حتى “المصير” كي يعود وينجح في تقديم عمل ٍ متماسك كتحفة ٍ فنية سينمائية خاصة النكهة. والحديث عن أيّ من الفيلمين يطول بحيث لا يتسع المجال هنا.
روح شاهين الفكرية هي روح نقدية، تستخدم الكاميرا لترسم رحلة نموّ في الوعي الإنساني، لذلك العربيّ المكتفي بسلبيته تجاه كل ما يأتيه من الداخل أو الخارج، من الماضي أو الحاضر.
” من أنا” سؤال حاول شاهين- وهو الأوّل في تاريخ السينما العربية- الإجابة عنه برباعية السيرة الذاتية، وهو سؤال يقوم في جوهره على التأثر بالمحيط والتأثير فيه، وبالتالي كان السؤال: من أنا ومن نحن؟ إسكندرية ليه” (1979) و”حدوتة مصرية” (1982) و”إسكندرية كمان وكمان” (1990) و”إسكندرية… نيويورك” (2004).
يمكن للدّارسين تقسيم أفلام شاهين خارج الرباعية إلى عدة تصنيفات، من حيث نواحيها البصرية، أو أزمنتها التاريخية، أو كما سنحاول هنا، أن نعيدها إلى مرجعياتها الفكرية، حيث يصبح بإمكاننا إرجاعها– وهو إرجاع نظريّ- إلى مستويين، هما الوعي بالذات وأزمات المجتمع، وأبرز أفلام هذا المستوى “باب الحديد” حيث تحدّى شاهين مجتمعه بأن رفع الحجاب عن قمقم “الجنس” المُشتهى! وآلمه حين عرّاه في ما ارتكب بحقّ ذاته وتاريخه عندما وقف صامتاً يتفرّج على مؤلفات “ابن رشد” والنيران تلتهمها بتهمة “التكفير” في “المصير” (1997). ثم الوعي بالآخر والبحث في إشكاليات العلاقة الفكرية والسياسية معه، فكانت أفلام من طراز “نابليون بونابرت” و” المهاجر” وصولاً إلى “الآخر” (1999) فشاهدنا الفرنسيّ المحتلّ للأرض المصرية، كما دخلنا عميقاً في رواية عن العلاقات الإنسانية المشوّهة وتهمة “الإرهاب”.
سيرة شاهين هي سيرة شاب طموح، لم يدخل عالم السينما عبقرياً، وإنما هي سيرة تشرح كيف استطاع من صنع “بياع الخواتم” (1965) حيث كان الصوت الفيروزيّ أهمّ ما فيه، أن يغدو أهمّ فنّاني السينما العربية وواحدا من نجوم السينما العالمية، فخرجت أفلامه تنادي بالصدق مع الذات، فهاجم الإسلاميين والتطرّف الدينيّ، كما هاجم العسكريين المتجبّرين والموظفين الحكوميين الفاسدين، عرّى الواقع حين صوّر قذارات الشوارع الفقيرة، وزيف اللمعان المُبهر، ضمن إطار ٍ من ثنائيات العلاقات التي تجمعهما، هشم إيقونات كثيرة وقارب محرّمات أكثر، كاشفاً عن التباسات وعينا والأطواق التي تحكمه، كقيم ٍ أخلاقية- مجتمعية، دينية الطابع، وكمصالح فردية أو رسمية حيناً آخر. رفض الرقابة على التاريخ والحاضر وعلى أفلامه، مؤمناً بالحرية، حرية الاختيار للمتلقّي في ما يريد مشاهدته، حريته في التعاطي مع ما يشاهد، وحرية الفنان في طرح ما يريد وبالشكل الذي يريد، وعليه لم يقدّم شاهين أفلاماً تطلق الضحكات أو تتسوّل الدّموع والآهات، لم يكن طرحه الفكريّ والسينمائيّ ساحة ً للتفريغ أو التطهير كما تحدّث “أرسطو”، وكما نرى في أفلام عادل إمام على سبيل المثال، بل كانت أفلاماً تقوم على المواجهة الصريحة والمؤلمة، وكأنها تكشف أوراق اللعبة وتدع للمتلقّي حرّية إطلاق الحكم على نفسه وعلى ما يحدث من حوله، جاعلاً من المتلقّي صورة التاريخ الحرّ في إطلاق أحكامه.
حال السينما الشاهينية هذه كانت سبباً في جعل الكثير من النقاد والمهتمين يصنّفون أفلام شاهين باعتبارها “نخبوية ً” تطالع الجمهور من علوّها الفكريّ، إذ ومنذ الهزيمة ابتعد يوسف شاهين في أسلوب تعاطيه مع موضوعاته الفنية عن الاهتمام بعائدات شبّاك التذاكر، واسترضاء غرائز الجمهور من عنف وإغراء- بمعناه الماديّ السطحيّ- وكوميديا مبتذلة، أو حتى استرضاء شركات الإنتاج العربية، فسعى إلى الحوار مع المموّل الغربيّ، وخاصّة فرنسا التي ربطته بها علاقة الندّ للندّ أكثر منها علاقة عربيّ يتذوّق الحضارة، كما اتّهمه كثيرون، حتى وصل بهم الحال إلى وصمه بالتطبيع. ومن رفعته الفكرية تلك، حاول شاهين الارتقاء بأدواته وحركاته التقنية، فتغيّرت لديه أساليب التعاطي مع الكاميرا كأداة، وحاول إعادة إنتاج ما تعلمه من أفلام الغرب ومدارسه، فالتقنية التي يستخدمها شاهين ليصوّر اللحظة الدرامية في “صراع في الوادي” قرب نهاية الفيلم، حيث المدى في الطريق الترابيّ يضمّ الفارس الشجاع”عمر الشريف” والحبيبة الرقيقة “فاتن حمامة” تقف بجانبه تواجه معه الرجل الشرير، الصمت الثقيل في المكان التاريخيّ يخترقه صوت الرصاص، وكاميرا تنتقل من “الكرين” حيناً إلى الثابتة حيناً آخر، كل هذا يُغاير وبشكل ملحوظ التقنية المستخدمة في تصوير مشهد اغتيال آدم “هاني سلامة” وحنان “حنان الترك” مع صراع الجيش والإسلاميين في “الآخر”. فالكاميرا التي بدت كأنّها ضائعة تبحث عن صيغة تبرر تطفّلها في صراع الوادي، غدت أكثر نضجاً، تعي دورها كشاهد ووثيقة تاريخية لما يحصل، قادرة على التّمييز بين التفاصيل الدرامية المفصلية في المشهد الواحد والتفاصيل التكميلية، وفي بعض اللحظات تبدو كأنها مشاركة في الفعل – والمقصود الفعل الدراميّ الذي يحكم المشهد بمجمله وليس فعل القتل- خاصة حين تسبق الشخصية ولو بجزء من الثانية فتكشف عن حركته القادمة أو تبوح له بالحركة المناسبة، فشاهين وإن ابتغى الحياد، لم يكن بقادرٍٍ على الحياد فهو العربيّ يقدّم روايته لتلك العلاقة ملتبسة المصالح ما بين الإسلاميين والأمريكيين، في حين كان صراعه القديم مع الإقطاعيّ المتسلط وأعراف المجتمع البائدة.
لاموضوعية شاهين هي انحياز شاع منه دائماً، انحياز إلى الإنسان أينما كان وأياً كان، وهو انحياز مطلق للقيمة الأخلاقية الثابتة دوماً والسامية على أيّ موقف أيديولوجيّ محكوم بتغيرات اللحظة التاريخية، فالمشاعر والأحلام الإنسانية هي الأرقى دوماً، ولأجلها واجه شاهين ذاته ومجتمعه والغرب الحاكم عليه كمواطن من “العالم الثالث”، علّ الأوان لا ينقضي فنسرق، ولو بألم المواجهة، فرصة ثانية، سبيلها عشق الحياة والرقص والغنى والفكر الجريء الحرّ. أو بكلمات أخرى كما غنّى محمد منير “ولو في يوم رحْ تنكسرْ.. لازمْ تقومْ، واقف كما النخل باصصْ للسما”.