عودة الابن الضال ليوسف شاهين، اركض يا رفيقي الماضي يطاردك
ابراهيم العريس
في عام 1976، بعد تسع سنوات من هزيمة حزيران (يونيو) التي هزت، بخاصة، وجدان المثقفين العرب وجعلتهم يراجعون افكارهم وحماساتهم القديمة وكل اليقينات التي كانوا يحملونها طوال عقود سابقة من السنين، كان يوسف شاهين قد أنجز ما سيسمى لاحقاً بـ«ثلاثية الهزيمة»، أي افلامه الرائعة «الأرض» و«الاختيار» و «العصفور» وهي أفلام قال بنفسه عنها انها متكاملة، حيث «انني في الفيلم الأول تحدثت عن نضال الفلاحين في أرض مصر خلال سنوات الثلاثين من القرن العشرين، وفي الفيلم الثاني تحدثت عن تمزق المثقف المصري المعاصر، اما في الفيلم الثالث فقد اهتممت بأن أكشف عورات المجتمع المصري». وكانت الأفلام الثلاثة، في شكل عام، سوداوية، عنيفة الى حد ما في الإدانة التي وجهتها، وليس الى طرف واحد من أطراف المجتمع والبلد، بل الى الجميع، بمن فيهم المثقفون والمناضلون. والحقيقة ان شاهين لم يكن وحده يائساً في ذلك الحين. وهو لئن كان أبدى تعاطفاً – لن يفارقه ابداً – في اتجاه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فإنه في الوقت نفسه لم يكن أعمى عن المساوئ التي تسبب بها العهد الثوري الناصري، من تغييب للديموقراطية، وفساد وارتشاء واختيارات استراتيجية مخطئة، وانعدام للحرية والحياة الحزبية، بل حتى إفساد متنوع الأشكال للمثقفين والحياة الثقافية. في تلك الأفلام الثلاثة عرض شاهين لكل هذا، لكنه بدا في كل فيلم من هذه الأفلام غير قادر على الإتيان بحلول لمعضلات وأوضاع بدت مستعصية تماماً. ومن هنا كان لا بد من فيلم جديد، يطرح فيه ولو بارقة أمل للمستقبل.
والحقيقة ان أرض مصر نفسها، بدت بين عام الهزيمة، وأواسط سنوات السبعين، حبلى بتغيرات اجتماعية وفي الذهنيات تتواكب مع ما كان يحدث في العالم من ثورات الأجيال الجديدة وانقلابات على أنماط حياة الآباء والأجداد. كانت الشعارات الأساسية في العالم تقول: «اركض يا رفيقي ان الماضي يطاردك». وفنان مرهف الحس متابع لكل ما يحدث في العالم، مثل يوسف شاهين ما كان يمكنه إلا ان يلاحظ ذلك كله، وإلا أن يفكر بمصر وهو يرصد حركة الشبيبة العالمية وإعلانها يأسها من الماضي، بحثاً عن تاريخ جديد. وعلى هذا النحو، انطلاقاً من هذا الرصد، ولدت فكرة واحد من اكثر افلام يوسف شاهين قسوة وغرابة، وهو فيلم «عودة الابن الضال»، الذي كتب له السيناريو بنفسه شراكة مع صلاح جاهين الذي كتب، بخاصة، الحوارات والأغاني.
للوهلة الأولى يبدو العنوان توراتياً، لكنه في الحقيقة يرتبط تماماً بموضوع الفيلم المأخوذ، على مستوى الرمز طبعاً، من واقع المجتمع المصري الراهن في ذلك الزمن الذي كان يتأرجح بقوة بين زمنين: زمن الوهم الثوري الجميل كما صاغه جمال عبدالناصر، وتمكنت كاريزماه الخاصة من إقناع الناس به، بل حتى إقناعهم بأنهم جميعاً يعملون من اجله، وزمن الانفتاح على العالم الذي أتى الرئيس التالي أنور السادات ليبشر به. ونعرف ان مصر، المثقفة على الأقل، كانت في ذلك الحين منقسمة بين هذين الزمنين. لكن يوسف شاهين، على رغم ان جزءاً كبيراً من فؤاده كان يميل الى جمال عبدالناصر، فيما يميل جزء من عقله الى سؤال خجول يقول: وماذا لو نعطي أنور السادات فرصته؟ يوسف شاهين، كان في إحساسه، يميل الى شيء آخر تماماً: الى الجيل الجديد، طالباً منه ان يعيش حياته متفرجاً – من دون تعاطف – على رموز الأجيال السابقة تدمر بعضها بعضاً.
نحن لو اكتفينا في الحديث عن «عودة الابن الضال» بهذا القدر من التفسير المنطقي، لظلمنا الفيلم، كما ظلم كثيراً، منذ عروضه الأولى ولا يزال يظلم حتى اليوم. ذلك ان شاهين، حتى وإن استخدم شخصياته رموزاً طبقية وسياسية، وحتى وإن كان صاغ الفيلم كله صياغة ايديولوجية المطلوب منها، في نهاية الأمر، ان توصل رسالة سياسية، فإنه – أولاً وأخيراً – حقق عملاً سينمائياً خالصاً، خلط فيه – في شكل خلاق – بين الأنواع، التي استخدمها كتحية للأنواع الأم التي ولّدتها: وهكذا نجدنا هنا أمام الكوميديا الموسيقية، والدراما العائلية والفيلم السياسي وسينما النقد الاجتماعي، بل حتى سينما المغامرة والسينما التعليمية. كل هذا، وبطريقته التي لا يدرك أحد غيره، سرها، مزجها يوسف شاهين في هذا الفيلم، الذي يروي في الأساس حكاية بسيطة: علي، المناضل السياسي التقدمي يخرج من السجن في اليوم نفسه الذي يشهد جنازة الرئيس جمال عبدالناصر، ويتوجه الى بيت أسرته الريفي حيث أخوه طُلبة وفاطمة، خطيبته السابقة التي آلت على نفسها ان تنتظره، وبقية أفراد العائلة ولا سيما ابن اخيه الشاب ابراهيم… ان معظم هؤلاء ينتظر إطلاق سراح علي، المثقف والحكيم عادة، لأن كل واحد ينتظر منه حلاً لمشكلات معلقة، لعلي يد فيها. ولكن بمقدار ما كان الانتظار كبيراً وصعباً، ستكون الخيبة مأسوية: فعلي، الذي قضى حياته مناضلاً ومنظراً، لا يبدو الآن قادراً على حل اية مشكلة، ولا حتى مشكلة فاطمة، خطيبته وقريبته التي دخلت العنوسة منذ زمن وستكشف لنا لاحقاً ان طُلبة أخاه الأكبر ووالد الفتى ابراهيم، كان اعتدى عليها. من ناحية مبدئية من الواضح هنا ان فاطمة ترمز إلى مصر، وأن طُلبة يرمز – مواربة – إلى حكم جمال عبدالناصر، فيما يرمز علي إلى القوى التي كانت مرغمة على السكوت على رغم إيمانها بالثورة. غير ان الترميز هنا – ولا بد من قول هذا مرة أخرى – لا يمنع من اننا أمام شخصيات نحسّ معها أننا امام أشخاص حقيقيين من لحم ودم. ولقد عزز من هذا الشعور، ان شاهين وضع مقابل هذه العائلة، عائلة اخرى، عمالية هذه المرة لها ابنة صبية حسناء، هي تفيدة. وتفيدة هذه مغرمة بابراهيم تحاول دوماً توعيته على واقعه وعلى ان ليس عليه ان يعتمد على اية أعجوبة تأتيه من الخارج لحل مشاكله وإنقاذ حياته من الملل ودفعه الى صنع مستقبله.
في خضم هذه العلاقات، إذاً، وفي وقت بدأ اليأس يدب فيه، في أفئدة كل أولئك الذين كانوا ينتظرون عودة الابن الضال، علي، ولا سيما فاطمة وابراهيم، يندلع الصراع دامياً ومبيداً، بين علي وطُلبة على وجه الخصوص، ثم بين الجميع، صراع سيقول يوسف شاهين لاحقاً انه أراد فيه، من جانب ما، ان يرمز ايضاً إلى الحرب الأهلية التي كانت رحاها تدور في لبنان في ذلك الحين. ولعل هذا أمر يعززه اختيار شاهين، الموفق جداً، للمطربة اللبنانية التي كانت تعيش أول صعودها المدوّي في ذلك الحين، ماجدة الرومي، كي تلعب دور تفيدة. أي الفتاة التي ستعرف، في المشهد الأخير، كيف تسحب حبيبها ابراهيم من المعمعة التي تقتتل فيها العائلة برصاص بعضها البعض، لتأخذه الى آفاق شمس مشرقة جديدة.
لم يحقق «عودة الابن الضال» نجاحاً تجارياً كبيراً حين عرض، كذلك فإن كثراً من النقاد أساؤوا فهمه والحكم عليه… لكن الفيلم عرف كيف يأخذ بالتدريج مكانه ومكانته في تاريخ السينما الشاهينية، كما في تاريخ السينما العربية. وهذا التوصيف الأخير مقصود، لأن شاهين، الذي كثيراً ما رغب في ان يعبر بعض أفلامه عن نظرة عربية عامة، قدم في هذا الفيلم درساً لا بأس به في كيف يمكن، بل يجب، أن يكون التعاون السينمائي والفني في شكل عام بين المبدعين العرب، إذ استعان باللبنانية ماجدة الرومي وبالجزائري سيد علي كويرت ليلعبا دورين رئيسين في مثال كان من الواضح ان شاهين يدعو السينمائيين العرب الى الاقتداء به.
نشر في جريدة الحياة في 2/8/2008