التفاوض السوري الإسرائيلي

سياسة حجْر الهموم

null
عبد الستار قاسم
هناك تساؤلات حول أسباب الليونة الظاهرة من قبل أميركا وإسرائيل حيال مواضيع مهمة وساخنة في المنطقة العربية الإسلامية. فجأة، توافق إسرائيل على مفاوضات غير مباشرة مع سوريا عبر تركيا، وأميركا توافق على حل شبه توافقي في لبنان، وإسرائيل توافق شفويا على تهدئة مع حماس.
ما الذي يجري؟ هل حط وحي السلام بترحاله في واشنطن وتل أبيب ليهدي الذين ظنوا أنهم قادرون على تحقيق ما يريدون بإصرارهم وجبروتهم العسكري والاقتصادي؟ لم تشهد الساحة العربية الإسلامية مثل هذا التوجه الصهيوني الأميركي من قبل، وتبدو الدولتان الآن وكأنهما تلبسان حلة جديدة من التريث في الاستعداء.
الاجتهادات حول أسباب هذا التوجه الجديد متعددة، وربما بتعدد الكتّاب الذين يتناولون الموضوع. هناك من يرى في إسرائيل وأميركا حمامتين للسلام والمحبة، وهناك من يرى فيهما شيطانين خبيثين، وما بين هذا وذاك تتعدد الرؤى. في هذا المقال، أدلو بدلوي في هذه المسألة عسى فيها ما يساهم في التعرف على زوايا هذا التوجه.
انتكاسات وانتصارات
لا أرى أن ملاك السلام قد ألقى بظلاله على إسرائيل وأميركا، وإنما تشير التطورات على الساحة العربية الإسلامية بخاصة العسكرية والأمنية إلى أن إسرائيل وأميركا قد أصيبتا بانتكاسات متلاحقة تدفع في اتجاه إعادة تقييم الأمور.
المحنة على أميركا في أفغانستان تشتد، وإيران مستمرة في تحديها للإرادة الأميركية، ولبنان هزم إسرائيل، وغزة بقيت صامدة أمام حصار مطبق تشارك فيه دول العالم وعلى رأسها دول الإخوة والأشقاء، والمقاومة العراقية حية ومتواصلة، والمحاكم الإسلامية تلحق الضربات الموجعة بالوكيل الإثيوبي.
فشلت المحاولات الأميركية والإسرائيلية في ميادين المعارك، واستمرت قوى المقاومة والمواجهة في صمودها وتوجيه الضربات القاسية ضد الأهداف الأميركية والإسرائيلية. حاولت الدولتان على مدى السنين السابقة تحقيق انتصار على كل قوى المقاومة في المنطقة جملة واحدة.
إطلاق النار اشتعل في آن واحد على مختلف الجبهات، وامتدت العمليات العسكرية وبتفاؤل كبير من أفغانستان إلى فلسطين، لكن نصرا لم يتحقق. توجهت الدولتان بالتعاون مع أنظمة عربية نحو صناعة فتن داخلية لاستنزاف الطاقات وتنقية الميادين من المقاومين.
حاول جميع المهتمين بهزيمة قوى المقاومة صناعة فتنة شيعية سنية، وتحول قادة إسرائيل وأميركا إلى سنة أكثر من السنة، وأبدوا دائما غيرتهم على أهل السنة في مواجهة ما يسمى الهلال الشيعي الزاحف. لكن أهل السنة كانوا على وعي كبير فأفشلوا الفتنة وحصروها في العراق.
ربما أيقنت الدولتان الآن أنهما غير قادرتين على تعبّط كل القضايا الشائكة على الساحة أو الإحاطة بها دفعة واحدة، وأنه لا بد من تجزئة الهموم من خلال آلية الحجْر.
حجْر الهموم أو عزلها هنا يعني القيام بخطوات استرخائية تجاه كل واحد من الهموم بهدف تنويمه أو عزله عن الهموم الأخرى وذلك من أجل التعامل مع كل همّ على حدة، وهو أشبه ما يكون بإجراء الحجْر الصحي أو الحجْر الإلكتروني الذي يحاول حصر المرض أو الفيروس لاتقاء شره إلى حين.
من شأن هذا العزل، وفق تفكير الدولتين، أن يعزز من قدراتهما التكتيكية في التعامل مع كل همّ، وأن يؤدي إلى نوع من التفسخ أو التفتت في معسكر المقاومة والممانعة.
من المحتمل أن الدولتين توجهان أنظارهما الآن نحو إيران لأنها هي الهمّ الأكبر، وترغبان في التفرغ لإيجاد حل قد يوقف المشروع النووي الإيراني. تشكل إيران، بالنسبة للدولتين، تحديا خطيرا وداهما على مصالحهما وهيمنتهما على المنطقة.
من الوارد أن الدولتين تعتبران إيران ذات طموحات عالمية وليست فقط إقليمية، وأنها ستستمر في التصنيع العسكري والتطوير لكي تكون قادرة على لعب دور عالمي يتعدى تخوم المنطقة العربية الإسلامية. ولهذا تركز الدولتان الآن في عملية التنويم على أصدقاء إيران أكثر من تركيزهما على غير الأصدقاء. فهما تركزان على سوريا وفلسطين ولبنان دون التركيز على المقاومتين الأفغانية والعراقية.
وقد كان لافتا للنظر أن كوندوليزا رايس قد أشارت في كلمة لها في لبنان إلى أنه آن الأوان للبحث في مسألة مزارع شبعا التي يتخذها حزب الله مربطا لاستمراره في الاستنفار العسكري. وواضح أن رايس ومعها إسرائيل تحاولان القضاء على الأسباب التي تبقي على قوة حجة حزب الله، وتمهدان الطريق مستقبلا، وبعد تحييد سوريا، لضربه.
لكن التنويم لا يعني حل المشاكل والقضاء على الهموم، وإنما يشكل فقط إجراء مؤقتا تحصينيا لغاية تحسن الظروف وفق رؤية المنوِّم. المعنى أن مشكلة لبنان لم يتم حلها، وكذلك مشكلة سيطرة حماس على غزة، ومشكلة علاقات سوريا بإيران.
تغير ميزان القوى
ميزان القوى العسكري في المنطقة العربية الإسلامية اختل، ولم يعد ذلك الميزان الراجح بقوة لصالح إسرائيل وأميركا قائما، وهذه حقيقة موضوعية ماثلة أمامنا وتلقي بظلالها على مجمل العلاقات البينية والداخلية في المنطقة، وعلى حركة العلاقات الدولية الخاصة بالمنطقة.
أميركا تقع في وحل العراق، وإسرائيل منيت بهزيمة في لبنان، ولم تستطع أن تدخل غزة. على مدى فترة طويلة من الزمن، وأميركا تهدد بأنها ستتخذ إجراءات قاسية ضد إيران ودون أن تستثني الخيار العسكري، ولم ترمش عين لطهران.
أميركا لم تستطع القيام بأي عمل عدائي كبير ضد إيران حتى الآن. أما إسرائيل فلم تعد قادرة على توجيه التهديد ضد حزب الله، وعجزت عن القيام بعمل عسكري واسع طالما هددت به ضد حماس في غزة.
تلك الأيام التي كانت فيها يد إسرائيل تسبق كلامها لم تعد موجودة، وذلك الرعب الذي كان يصاحب التهديد الأميركي قد غادر القلوب. زمن الانتصارات السريعة قد ولى، ولم يعد أمام أميركا وإسرائيل إلا القيام بمغامرات عسكرية غير مضمونة النتائج.
وقف جيش إسرائيل محتارا أمام غزة حتى غدا جنود إسرائيل مادة للتندر والاستهزاء أمام الناس في المستوطنات المحاذية للقطاع. ذلك الجندي الذي كان ينظر إليه العجزة العرب على أنه عملاق، تقلص حجمه ليصبح مترددا حائرا ومتوجسا أمام عدد محدود من المقاتلين الذين تعتبر إرادتهم القتالية أمضى سلاح يمتلكونه. لم تعد إسرائيل تتعامل مع جيوش تتخذ من الهرب إستراتيجية قتالية.
مع تغير ميزان القوى، أمام إسرائيل وأميركا إما الاعتراف بالواقع الجديد أو أن تعملا على إعادة العجلة إلى الوراء. المنطق التاريخي يقول إن صاحب السلطان لا يتخلى عن سلطانه بسهولة، ولا بد أن يحاول القضاء على خصومه ومناوئيه.
لا أظن أن إسرائيل وأميركا ستكونان أكثر منطقية من منطق التاريخ، وستحاولان القيام بمغامرات عسكرية قبل أن تدركا أن جزءا من شعوب المنطقة قد قرر الصمود والبقاء والتحدي بغض النظر عن التضحيات المطلوبة، وأن معادلة علاقات جديدة لا بد أن تنشأ وتكون هما فيها الخاسرتين.
العلاقات الجدلية
هناك من يمكنه القول إن هذا التحليل غير دقيق والدليل على ذلك أن أميركا غير راضية عن المفاوضات غير المباشرة مع سوريا، وغير مقتنعة باتفاق الهدنة مع حماس.
المعنى أن إسرائيل وأميركا لا تعملان معا فريقا واحدا، وأنمهما تفترقان في كثير من الخطوات المتعلقة بأمور المنطقة. وهناك من يستند على تعليقات إعلامية حول هذا الأمر، وعلى تصريحات بعض السياسيين.
إنه من غير الحكمة أن يضع المحلل كل ذكائه أو أغلبه في المواد التي يبثها الإعلاميون، أو في تصريحات السياسيين. في كثير من الأحيان، الإعلام مجير ومأجور ومنحاز وغير علمي وغير موضوعي، وفي أغلب الأحيان السياسي كاذب ومضلل.
هذا لا يعني أن علينا تجاهل المادة الإعلامية أو التصريحات السياسية، لكن علينا أن نتوخى الحذر الشديد لكي نتجنب تأثير التضليل والتهويل والخداع والتمويه.
في كثير من الأحيان تتعمد الأجهزة السياسية والأمنية تسريب بعض العبارات والجمل لأهداف في نفس يعقوب وليس حبا في قول الحقيقة أو تغييبها، وإذا كان لنا أن نجري وراء ما يتم بثه إعلاميا من تصريحات وتحليلات فإن تقييمنا للأمور سيكون في مهب الذبذبات الهوائية أو الإلكترونية وسنفقد البوصلة.
تختلف أميركا وإسرائيل في قضايا ثانوية لا تمس الأبعاد الإستراتيجية للصراع الدائر في المنطقة، وربما تذهب كل واحدة منهما في طريق. فمثلا قد تختلف الدولتان حول كمية المياه التي يمكن أن تضخها إسرائيل للأردن، أو حول فتح طرق جديدة تربط مدن الضفة الغربية بعضها ببعض، لكنهما لا تختلفان علنا حول حل قضية اللاجئين.
من المتوقع أن تكون هناك اختلافات بين الدولتين حول المسائل المهمة، لكنها لا تتطور إلى خلافات تؤدي إلى انفصام سياسي، على الأقل في المرحلة التاريخية القائمة، وذلك بسبب تشابك المصالح وتقارب وجهات النظر حول تحقيقها.
سياسة التخويف
مع سياسة الحجْر التي تقوم بها الدولتان، هناك منحى تخويفي ترعيبي تسيران فيه بهدف قذف الرعب في قلوب الخصوم وطمأنة الأصدقاء. إسرائيل لا تتوقف عن التهديد والوعيد، ولا يتوقف طيرانها عن التحليق فوق جنوب لبنان، وأميركا مستمرة في بث الأخبار حول تحركات أساطيلها البحرية ودخول بوارجها منطقة الخليج.
وقد قام الإعلام مؤخرا بنشر مواد حول مناورات إسرائيلية جوية فوق البحر الأبيض المتوسط وذلك كتمرين لضرب المنشآت النووية الإيرانية. أسهب الإعلام في تغطية الأمر، وامتنعت إسرائيل عن التعليق في إشارة منها إلى صحة الخبر.
يذكرني الوعيد والتهديد المتواصل بالمزاج العربي القديم الذي كان يتكلم كثيرا ويفعل الشيء القليل جدا. هذه هي سياسة “التهمير” والتي تعني إخراج همهمات صوتية خاوية فيها لحن الإرعاب دون أن تكون مدعومة بعضلات أو إرادة.
تفتيت قوى الممانعة
مع سياسة الحجْر، تأمل إسرائيل وأميركا تفتيت معسكر قوى الممانعة المتمثل في إيران وسوريا وحزب الله وحماس وفصائل فلسطينية أخرى. هناك قوى ممانعة أخرى لكنها على خلاف فيما بينها، وعلى خلاف مع هذا المحور غير المعلن.
طالبان والقاعدة بعيدتان عن المحور، والمقاومة العراقية لم تستطع حتى الآن القضاء على الفتنة الداخلية.
تأمل إسرائيل أن تخرج سوريا من دائرة الصراع إذا اطمأنت إلى أن الجولان ستعود. إذا خرجت سوريا فإن حزب الله سيصاب بضرر كبير جدا، وستدفع بعض التنظيمات الفلسطينية ثمنا باهظا لقاء ذلك.
وعندها أيضا ستفقد إيران أقرب أصدقائها، وسيتعزز المعسكر العربي في مواجهة طهران. وإذا ضعف حزب الله ضعفت حماس، وإذا ضعفت حماس سهل الاستفراد بالجهاد الإسلامي، وهكذا.
نظرا للتغير في ميزان القوى، سوريا ستستمر في المفاوضات غير المباشرة، ومن المحتمل أن تعود إلى المفاوضات المباشرة، لكن مطلبها الآن سيكون الانسحاب الإسرائيلي من الجولان بدون شروط. الظروف اختلفت، وما كان يمكن قبوله بالأمس لن يكون مقبولا اليوم.
ـــــــــــ

كاتب فلسطيني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى