حقوق الأقليات في رؤية الإخوان المسلمين السورية
جورج كتن
2005 / 6 / 17
قدمت جماعة الإخوان المسلمين “مشروعاً سياسياً لسوريا” يتضمن موقفاً وحلولاً للمسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالاعتماد على ما تراه “إسلام متجدد تتفاعل نصوصه وأصوله مع وقائع الحياة ومستجداتها في إطار مقاصد الشريعة العامة”، وهذا يعني برأيها أن الكتاب والسنة نصوص ثابتة لا تقبل التجديد، الذي يقتصر على “طرق عرضها وبراهين تأكيدها وأساليب الدفاع عنها”، ومهمة الاجتهاد المتجدد “إنزال النصوص على الوقائع وفق أصول الفقه”، فالتجديد يفهم هنا في الأساليب فقط وليس في المفاهيم.
يعتبر خطوة للأمام اعتراف “المشروع” بخصوصية الانتقال من عصر إلى عصر في فهم النص الشرعي، كذلك قبوله عقائد وأفكار وتقاليد المجتمع والاستفادة من ثقافات الأمم وتجارب الشعوب ومعطيات الحضارة الإنسانية في مجال النظم السياسية والاقتصادية التي لا يرى رفضها بالمطلق أو قبولها بالمطلق، فيأخذ منها “ما أقرته الشريعة وتحققت به المصلحة” وما يوافق الناس.
ما يهمنا هنا اعتراف “المشروع” بالتعددية الحضارية وبالآخر، والتواصل بين الشعوب، والدعوة والتبليغ بالإقناع ومخاطبة العقل والضمير مع نبذ العنف، فالجهاد يوجه لرد الاعتداء على المسلمين. لكن “المشروع” يضيف أن الجهاد واجب أيضاً إذا حيل بين المسلمين وبين تبليغ دعوتهم وخاصة في البلدان ذات الأغلبيات غير المسلمة، مما يعطي برأينا الذرائع للتيارات الإسلامية المتطرفة في دعوتها للجهاد لنشر الدين في ما تسميه “دار الكفر”. ولم يشر “المشروع” إلى أنها دعوة قابلة للعكس، أي حق الآخرين في بلاد أغلبيتها مسلمة بنشر دياناتهم وعقائدهم.
يعترف “المشروع” بحرية الإنسان في اختيار عقيدته الدينية، دون التطرق لمسألة جدالية حول حق المسلم في تغييرها، الذي كفله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لكل الديانات، بينما معظم الاجتهادات الإسلامية السائدة تكفر المرتد. ويرى “المشروع” في اشتراك الإسلام مع المسيحية في الكثير من القيم ما “يثبت المرجعية القيمية للإسلام ويبسط سلطانها على مجموع أبناء الشعب”، وهو ما يناقض اعترافه بالمساواة في الحقوق بين جميع المكونات الدينية، ففي دولة “حديثة” تضم أقليات دينية ومذهبية الرابط بينها المواطنة المتساوية، لا يمكن قبول هيمنة لمجموعة دينية على أخرى، بينما يرى “المشروع” المواطنة بديلاً لمفهوم “أهل الذمة”، مما يعيد للأذهان التعامل مع الأقليات كرعايا من الدرجة الثانية.
يعترف “المشروع” لجميع الأديان بحرية العبادات وخصوصية كل طائفة في مسائل الزواج والطلاق والمواريث، أي حقها بالاحتكام إلى شرائعها في أحوالها الشخصية، أما الأحوال العامة فهي من اختصاص المرجعية الإسلامية المهيمنة في كافة أمور الحياة الأخرى. والأمر لا يقتصر بالطبع على فرضها على أديان أخرى، بل يتجاوز ذلك إلى فرض “المشروع” لمرجعية سنية على المذاهب الإسلامية الأخرى.
في مجال التطبيق وكأمثلة لتوضيح الأمر أكثر: يقدم “المشروع” النظام الاقتصادي الإسلامي لإنقاذ البشرية وتخليصها من أزماتها وشرورها! وهو نظام خيالي ومثالي لن ندخل في تفاصيله، فما يهمنا هنا أن فرضه على الأقليات ليس من المساواة في شيء، فضلاً عن أنه لا يتفق مع “الدولة الحديثة” التي يدعوا إليها “المشروع”. فهل يطبق نظام الزكاة الذي يطرحه “المشروع” كبديل للضرائب الحالية على الجميع الذين لا تنص دياناتهم على ذلك، أم هل يطبق عليهم نظام “الجزية”؟، مما ينسف المساواة بين المواطنين والعيش المشترك الذي ينادي به “المشروع” نظرياً وينقضه عملياً.
كيف يمكن تطبيق التشريع الجنائي الإسلامي –الحدود- القاضي مثلاً بقطع يد السارق، فيما أديان أخرى لا تقبل هذه العقوبة الجائرة، فالإنسانية بكاملها باتت ترفض العقوبات التي تتعرض لجسم الإنسان كالجلد أو بتر الأعضاء، وهي تسير نحو إلغاء كلي لعقوبة الإعدام، كما تعتبر قطع الرأس عملية وحشية مرفوضة. ثم كيف يمكن مثلاً تحريم الربا(الفوائد) والخمور…في المجتمع بكامله لأن الإسلام يحرمه بينما أديان أخرى لا تفعل ذلك؟ وهل إقرار”المشروع” بالتعايش بين الأديان بما فيه الزواج بين أفرادها، يعني فقط زواج المسلم من غير المسلمة وليس العكس، أي زواج غير المسلم من المسلمة، الذي يعني تحريمه أن التعايش يميل لصالح أحد الأطراف؟.
إن التعايش المشترك المبني على المساواة بين المواطنين لا يستقيم مع مرجعية دينية للفئة الكبيرة، ولا يكون حقيقياً إن لم يقترن بدستور وقوانين وضعية تشكل قاسماً مشتركاً بين الجميع، الشريعة الإسلامية “أحد” مصادرها، وليس “المصدر الوحيد” كما يفضل المتشددون الإسلاميون، أو “المصدر الأساسي” كما يفضل مشروع الإخوان. إن الدستور والقوانين العلمانية المتوافق عليها هي التي تؤمن المساواة الحقيقية بين المواطنين من كافة الديانات والمذاهب، فالعلمانية وجدت طريقها إلى حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي الحاكم، رغم أنها مذمومة من تيارات الإسلام السياسي وتكاد تقارب الكفر. وإذا كانت الجماعة السورية تجدد مفاهيمها وتنتقل من شعارها القديم “دستورنا القرآن” إلى دستور ديمقراطي يعتمد الشريعة الإسلامية، فإن استمرارها في التجديد والاجتهاد سيوصلها إلى أن الدستور الديمقراطي العلماني هو الذي يقود لتحديث الدولة كما ترغب.
أما بخصوص التعدد القومي ف”المشروع” لا يجد أية مشكلة أقليات بحاجة لعلاج في سوريا فيما يخص التعددية العرقية الكردية والتركمانية والشركسية التي “تجمعها مظلة الإسلام”، وهو رأي يتجاهل التجربة التاريخية للانتماء القومي الذي لم يتم صهره، فهناك مشكلة أقليات قومية رغم الإطار الجامع الإسلامي، كما أن دعوة”المشروع” الخيالية للوحدة العربية، هي خيار خاص بالعرب لا تقبل به القوميات الأخرى، فقد يفضل الكرد وحدة كردية تجمعهم مع أشقائهم في بلدان تواجدهم الأخرى.
إن رفض وجود أية مشكلات قومية هو إغماض للعين عن مسألة أساسية فرضت وجودها على الساحة السورية، مما اضطر “الجماعة” لإصدار بيان خاص في 17-5 يوضح رؤيتها للقضية الكردية، لتعترف بأن الكرد مكون أصيل من مكونات الشعب السوري يعيشون على أرضهم التاريخية، ولتقر بوجود سياسة عنصرية إقصائية تمارس ضدهم طالت وجودهم وانتماءهم، ولتدين هذه السياسة ولتتضامن مع حقوقهم المشروعة التي تراها في إعادة الجنسية للمجردين منها وفي نيل حقوقهم الثقافية في إطار وحدة الوطن، والتعويض على المتضررين من سياسة التمييز.
وهو موقف غير كاف رغم تقدمه على سياسة التجاهل السابقة، إذ أن الحل يبدأ من الاعتراف بالشعب الكردي، وليس بالمواطنين الأكراد، وأن انتمائهم للإسلام لم يصهرهم مع القوميات الأخرى، وأن من حقهم تقرير أمورهم بأنفسهم، وليس تقريرها لهم حسب مرجعيات “المشروع”، فانتمائهم للإسلام لا يمنع الاعتراف بقوميتهم الخاصة وما يترتب على ذلك، كما أن انتماء العرب للإسلام لم يمنع “المشروع” من الدعوة للوحدة العربية.
وكما وضعت المرجعية الإسلامية “للمشروع” قيوداً على حلول عصرية لمسائل الأقليات الدينية والقومية، فقد وضعت مثلها على مساواة المرأة بالرجل، فرغم الاعتراف بأهلية المرأة لكل الأنشطة المدنية وحقها في ولوج الحياة العامة، ف”المشروع” اشترط عدم تعارض ذلك مع التزامها بأطفالها وبيتها، الميدان الأساسي لعملها، وبقي في إطار النظرة المتخلفة للمرأة إذ دافع عن أن النساء “ناقصات عقل ودين” وعن أن شهادتهن وحصتهن في الميراث نصف شهادة وحصة الرجل، بتقديم تبريرات غير مقنعة، إذ أن النساء “كناقصات عقل” لا يصلحن للأنشطة المدنية ولا حتى للاختصاص المنزلي الذي يفضله “المشروع” لهن، إذ كيف يعقل أن ناقصات عقل يمكن أن يربين الأجيال التي تريدها “الجماعة” ذخراً لإعادة العرب والمسلمين للمشاركة في الحضارة الإنسانية؟.
لا يمكن “للجماعة” أن تقنع الأطراف السياسية السورية بأنها تتبنى مشروعاًُ لبناء دولة حديثة، ديمقراطية جمهورية شوروية، قائمة على أسس تعاقدية دستورية وتعددية تمثيلية تداولية، وعلى سيادة قانون وفصل السلطات، إن لم يكن إقرار الحقوق القومية للأقليات ومساواة المرأة بالرجل، جزء مما توفره الدولة الحديثة الموصوفة.
لا نظن أنه يمكن تجاهل التيار الإسلامي الذي يمد جذوره في قاع المجتمع، فالحوار مع أطرافه المعتدلة يمكن أن يوصل إلى قواسم مشتركة تقطع الطريق على التطرف والعنف، الذي سعت “الجماعة” لنبذه.، لذلك يبدو غير مفهوماً اعتبار النظام للحوار معها خط أحمر، بينما يسمح بنشاط تيارات إسلامية معتدلة مشابهة في الداخل، من رموزها: الشيخ كفتارو والشيخ البوطي وحبش والقبيسي وغيرهم.. ، ويقيم في الخارج علاقات مع حماس والجهاد والجماعة الإسلامية في لبنان … ربما يكون سبب رفض الحوار تاريخ الصراع الدموي السابق بين الطرفين الذي تحاول “الجماعة” تجاوزه بالدعوة لمصالحة وطنية بينما تصر السلطة على راهنيته.
ما شجعنا على مناقشة ما جاء في “المشروع” حول قضايا الأقليات والمرأة، دعوة “الجماعة” للحوار حول مفاهيمها، فنقدنا لها يهدف لدفعها للمزيد من التجديد والاجتهاد