مشروع -الراديكالية الإسلاموية- للانتحار الجماعي
جورج كتن
خاص – صفحات سورية –
2006 / 10 / 19
روجت أنظمة وقوى سياسية محلية ودولية لمشاريع مختلفة كحلول لأزمات المنطقة التي يجمع بينها جغرافياً المجال الشرق أوسطي, فقد أصبح مقبولاً الآن لدى راديكاليين الدعوة لشرق أوسط مقاوم وممانع في وجه مشروع شرق أوسط جديد تروج له أطراف دولية. المشروعان هما الأكثر فعالية, لكن ما يهمنا هنا استعراض بعض ملامح المشروع الراديكالي وقواه ووسائله.
يكتسب المشروع صفة “الراديكالية” برأينا ليس لطرحه برامج تغييرية تنقل مجتمعات المنطقة من حالتها المتردية إلى أوضاع حياتية أفضل, ولكن لاعتماده العنف كوسيلة رئيسية لتحقيق برامج تتعارض مع العصر, وتفضيل الحاضر المتخلف على الحداثة التي تطرحها العولمة, والماضي كبديل عن الحاضر المبتعد عن نهج السلف الصالح.
قوى الإسلام السياسي هي الكتلة الأكبر خلف المشروع الراديكالي, بتياريها الإيراني والإخواني وملحقاتهما. أما القوى القومية أو اليسارية التي احتكرت وحدها الصفة “الراديكالية” في عقود الخمسينيات حتى السبعينيات, فقد تراجع دورها ليصبح هامشياً وملحقاً بالتيار الإسلامي الذي احتكر هذه الصفة منذ الثمانينيات.
لا نستبعد المجموعات السلفية المسلحة – العراق ودول أخرى- من معسكر الراديكالية الجديد, إذ أنها تلقى الثناء لمقاتلتها للعدو المشترك, لكنها غير مقبولة من الأطراف الرئيسية لعدم اكتفائها بالمقاومة, فهي تندفع للهجوم على العدو في عقر داره –نيويورك ولندن ومدريد-, وترفض توزيع الأهداف على مراحل وتسعى لتحقيقها دفعة واحدة: الحرب على فسطاط الكفر الغربي, قطع أعناق المخالفين المحليين, إرجاع الخلافة الإسلامية, تطبيق الحدود والشرائع حسب فهمها لها في أماكن سيطرتها.
لا يخلو التيار الراديكالي من أطراف مترددة بين الدعوة للسلام وتعايش الدول المتواجهة والعمل للشراكة مع الغرب, وبين دعم العنف المقاوم. فهي راديكالية في مجالات وأزمنة وواقعية في مجالات وأزمنة أخرى. إلا أن المجرى الرئيسي لراديكاليي المنطقة الذي يشغل معظمه الإسلاميون, لا يقبل “التفريط” بالحقوق حتى لو أدى الأمر لكوارث مجتمعية.
وفي الوقت الذي توصلت فيه معظم القوى الراديكالية, التي شغلت تجربتها نصف قرن من حروب عبثية هدرت الإمكانيات وعرقلت التطوير, إلى أفضلية السياسة الواقعية للتصالح مع العالم والسلام مع إسرائيل والاندراج في المسيرة الإنسانية, فإن الراديكاليين الجدد يكررون التجربة السابقة, مع توصيف جديد لها لتتحول من “كرامة وصمود وطني” و”انتصارات قومية”…إلى “كرامة وصمود إسلامي” و”انتصارات إلهية“…
قد يظن البعض أن المستقبل سيكون مختلفاً مع شعار “الإسلام هو الحل”, ولكن كما يقول المثل الدارج: “المكتوب مبين من عنوانه”, فحماس مثلاً بعد تشكيلها الحكومة فشلت في إدارة سلطة لم تعترف بالاتفاقيات التي أتت بها, ليصبح شعارها الرئيسي: “الجوع ولا الركوع” !! أي التمسك بالثوابت “الأيديولوجية” وبالعنف, المؤدي للمزيد من العزلة عن العالم والكوارث للشعب الفلسطيني, والمزيد من الفوضى والفلتان الأمني التي تقود للحرب الأهلية.. ففي مهرجان حماس الأخير في غزة يسأل الموجه جمهور حماس: “ما هي أقصى أمانيكم؟” فيأتي الرد الهادر: “الموت في سبيل الله“!!
تحرير الأرض للتمتع بالحياة في وطن محرر ليس أقصى الأماني, بينما الموت كغاية في العمليات الانتحارية يكتسب أهميته من الفوز بالحياة الآخرة على حساب الحياة الدنيا العابرة. وقد أفادت استطلاعات رأي أن 25% من شباب غزة يطمحون للقيام بعمليات انتحارية, وهو رقم يدل على اقتناع قطاعات واسعة “بكسب الجنة” من خلال الانتحار المسمى استشهادي.
“النجاح الأكبر” لحماس هو رفع النسبة إلى 50 أو 75 %…, لتحويل الانتحار الفردي إلى دعوة للانتحار الجماعي للشعب الفلسطيني, ويمكن الوصول لهذه النتيجة من ناحية أخرى إذا استمر عدم اكتراث حكومة حماس بحالة المواطنين المأساوية وبتعميم الخراب الشامل. لم يطلب الله من أحد أن يموت في سبيله بهذه الطريقة, ولكن وسطاء بين الله والناس فسروا النصوص لخدمة مصالحهم, فأحيوا غريزة الموت وروجوا “لقوم يحبون الموت”, فحماس لم تنتقل من منظمة خيرية إلى منظمة تتربع على كراسي الحكم, إلا بثقافة الموت التي نجحت في ترويجها في أوساط الشعب الفلسطيني.
ثقافة الموت والانتحار واستئصال الآخر باسم الجهاد ليست حكراً على حماس, فهي توجه عام “للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين”, مقبول من إخوان مصر والأردن الداعين من مواقعهم في المعارضة لإلغاء الاتفاقيات مع إسرائيل, أي افتتاح جبهات قتل واقتتال أخرى, رغم أن مصر والأردن استعادتا جميع أراضيهما المحتلة, وتوقفت الحروب منذ ربع قرن على الحدود المصرية والأردنية.
ورغم أن لبنان حررت جميع أراضيها عام 2000 عدا مزارع شبعا المثيرة للجدل وثلاث أسرى, فأن ثقافة الموت والاستشهاد قادت للحرب المدمرة الأخيرة, وربما تقود لحروب أخرى “إلهية” مستقبلاً لإشباع غريزة الموت و”الصمود” الأهم من الكوارث البشرية والمادية.
“الإسلام هو الحل” لم يكن أفضل في سودان الإخوان حيث لقيت ثقافة الموت رواجاً كبيراً بافتتاح ثلاث جبهات للقتل في الشرق والغرب والجنوب, أغلق منها جبهتان حتى الآن بعد طرد أنصار الترابي, ويتردد الباقون في السلطة بإغلاق الثالثة, جبهة دارفور في الغرب.
وفي العراق تقتل منظمات الإجرام المتسترة بالإسلام العراقيين بالآلاف, فقط لإثبات أن الحكومة المنتخبة فشلت في تحقيق الأمن والاستقرار, وأن الحكومة الدينية بأمير مؤمنيها المعلنة مؤخراً هي الوحيدة الممثلة للعراقيين, فكلما انتشر الموت انتصرت العقيدة!! والإنسان الحق بالفهم الإسلاموي هو الإنسان القاتل أو المقتول!!
أما “الإسلام هو الحل” المتضمن لثقافة الموت فقد جر إسلاميو أفغانستان من الجهاد ضد السوفييت إلى حرب أهلية بين “المجاهدين” أحرقت الأخضر واليابس, إلى أن سيطرت “الطالبان” في صراع البقاء الدموي, لتقيم الخلافة على الجثث والأنقاض والنساء المسجونات في بيوتهن والذقون المرسلة والعقول المفرغة, ولتندفع ممتطية لأوهام القوة، لنشر النحر والقتل في ديار الكفر البعيدة.
كما لا يختلف المشروع النووي الإيراني المصدر للراديكالية في المنطقة, الداعي لمحو دول من الخريطة, والمتحدي للمجتمع الدولي, والمستند لثقافة الاستعداد للموت والاستهتار بالإنسان, والمتقبل للخراب باعتبار الخسائر المادية متاع الحياة الدنيا الزائلة.
والنجاح الأكبر عندما يتمكن الإسلاميون من إقناع مواطنيهم أن العالم يشن عليهم حرباً دينية, بتصيد صور أو جمل أو كلمات في تصريح أو مقال أو محاضرة على امتداد العالم, يمكن تأويلها للحض على الكراهية والعداء للآخر, وللدعوة “للغضب” كما طالب الشيخ القرضاوي, ليتحول إلى هياج في الشارع يحرق السفارات ودور العبادة, وكلما ازداد الهياج وابتعد العقل والحوار, كلما أقترب تحقيق الأهداف. وإذا كان التيار الإسلامي حالياً موزع في ساحات متباعدة, ففي الحرب الدينية الشاملة سيكون الوحيد القادر على امتطائها وتسخيرها.
وإذا كانت الدعوة صريحة في الخطاب المتطرف للقاعدة لحرب دينية عالمية لنشر الإسلام في دار الكفر, فأن الإسلام السياسي “غير المتطرف” يروج لها مداورة بادعاء أن الغرب يشن حرباً على الإسلام والمسلمين, دون إثبات ذلك في الواقع العملي, فلا يحتاج لإقناع العقول المغيبة سوى لصورة هنا أو جملة هناك.
لا أظن أننا سنصل إلى يوم نضطر فيه للاختيار بين استبداد “علماني” بمسحة حداثية رقيقة, وبين استبداد إسلام سياسي “راديكالي” يقود للانتحار الجماعي, أو للمزيد من التخلف.
وطالما أن هناك مقتنعون: بنبذ العنف وحل الخلافات بالعقل والحوار, وقبول الانفتاح على العالم المتحضر واللحاق به بالتحديث, وتفضيل العولمة الإنسانية على النرجسية القومية, والتخلي عن المفاهيم القديمة وأوهام الحقائق المطلقة والأحقاد التاريخية, واحترام الإنسان كأسمى قيمة, وتحرير العقل من النص, والتمسك بالفكر النقدي والدولة الحديثة الديمقراطية وحقوق القوميات والمساواة التامة للمرأة بالرجل, وانتصار حب الحياة والتمتع بها على تمجيد الموت…..
فهناك أمل بخيار ثالث مستقبلي يتجاوز الاستبدادين العلماني والديني نحو شرق أوسط إنساني ومتحضر