المحكمة والبشير: الفرص التي يتيحها الانتقاص من سيادة الدول
صالح بشير
هي أيام معدودات فصلت بين مبادرة مدعي المحكمة الجنائية الدولية إلى توجيه التهمة للرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب جرائم حرب في دارفور، وبين إلقاء القبض على مجرم الحرب الصربي رادوفان كاراديتش. وهو ما أعاد بقوّة، على وجه الصدفة على الأرجح، موضوعة أو هاجس العدالة الكونية إلى صدارة الاهتمام، مستأنفاً نقاشا في صددها كانت قد شهدته سنوات ما بعد الحرب الباردة، تسعينات القرن الماضي على وجه أخصّ، نقاشاً واكب نزاعات يوغسلافيا السابقة ومسار تفككها الذي كان داميا والحرب الأهلية في رواندا التي كانت حرب دمار شامل أداتها بدائي الغرائز وبدائي الوسائل، أي الحقد والسواطير…
غير أن مدعي المحكمة الجنائية الدولية، وهو يستعيد ذلك الأمر من سنوات التسعين الخوالي اتهاما للرئيس السوداني، أعاد طرح موضوع العدالة الكونية من موقع التقدم عما آل إليه آنذاك ومن موقع التجاوز له. فهو قام بتفعيل المحكمة الجنائية الدولية، لأول مرة ربما منذ إنشائها في 2002، ساعيا إلى فرضها هيئةَ قضاء ناجزة الصلاحية كلما وحيثما وجدت دواعي الاضطلاع بدورها، تحقيقا في جرائم إبادة أو جرائم حرب ومقاضاة لمرتكبيها المفترضين، وفي ذلك ما يمثل إعادة نظر بالغة الأهمية وإن ضمنية، في مبدأ المحاكم الخاصّة، كتلك التي صير إلى إنشائها لملاحقة مجرمي الحروب اليوغوسلافية أو الرواندية، سعيا من القوى النافذة، لا سيما الولايات المتحدة (وهي، بالمناسبة، إحدى دول سبع، إلى جانب إسرائيل والصين وقطر والعراق وليبيا واليمن، صوتت ضد اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية) إلى التحكم في ظاهرة القضاء الكوني وفي استقلالية مؤسساته، فلا يُسمح بها إلا بمقدار وفي حالات خاصّة، تُحدد، بمعنى من المعاني، بميزان القوة السياسية وما يتيحه، لا بالقانون، فلا تُقرّ بمبدأ الإدانة القانونية، التي يُفترض فيها الشمول والإطلاق، إلا باشتراط الإدانة السياسية، وهذه نسبية بطبيعتها.
ومن هنا، فإن المحكمة الجنائية الدولية، إذ تتنكب النظر في الجرائم المنسوبة إلى الرئيس البشير وتدّعي تلك الصلاحية وتتطلع إلى النهوض بها، إنما تسعى إلى انتزاع الوظيفة التي وُجدت من أجلها، وفق وثائقها المؤسسة، والتي حيل دونها والاضطلاع بها حتى الآن باللجوء إلى المحاكم الخاصة. ومزية هذه الأخيرة (علما بأن وجودها أفضل من انعدامه) في نظر باعثيها أنها تحصر مجال العدالة الكونية، وإن أقرت بها، بما قد يفضي إلى التعاطي معها بمنطق التوظيف وبما قد يؤدي إلى التدني بها إلى مصاف عدالة المنتصرين. فمثل تلك العدالة الكونية، المستندة إلى هيئة مستقلة غير محدودة الصلاحية والمدى، ليست مما تحبذه القوى النافذة، وفي ذلك ما قد يضفي، على أقل تقدير، بعض نسبية على رأي شائع في المنطقة، سارع ينسب مبادرة مدعي المحكمة الجنائية باتهام البشير إلى «مؤامرة» حاكتها الولايات المتحدة ضد السودان، فذهل بذلك عن أن الولايات المتحدة إنما تتحفظ على العدالة الكونية تحفظا مبدئيا، فلا تقرها ولا تعترف بأدواتها ومؤسساتها، وتفضل عليها، كما سبقت الإشارة، المحاكم الخاصة، يتم تأليفها عينيا وموضعيا. والأرجح أنها كانت تحبذ لو صير إلى تشكيل ما يماثلها لملاحقة الرئيس السوداني.
ثم أن مدعي المحكمة الجنائية الدولية اجترأ على تجاوز آخر إذ أقدم على اتهام الرئيس السوداني، من طبيعة قانونية هذه المرة. إذ ليس خطلا ما ذهبت إليه الخرطوم عندما أكدت أن قرارات وإجراءات المحكمة الدولية، تحقيقا فمحاكمةً وإدانة محتملتين لا تسري على رئيسها لأن السودان لم يوقع أو أنه وقع ولم يصادق على الاتفاقية القاضية بإنشاء تلك المحكمة، وذلك عين ما تقول به الوثائق المؤسسة لهذه الأخيرة. كما أن الوثائق تلك تقرّ بصلاحية تلك المحكمة فقط متى ما انعدمت ملاحقة جرائم الإبادة أو جرائم الحرب وتلك المقترفة ضد الإنسانية على الصعيد الداخلي، أي من قبل محاكم البلدان التي شهدت تلك الجرائم. وذلك ما يفسر، مسارعة السودان إلى إعلان عزمه إقامة محاكم محلية تنظر في الجرائم المرتكبة في دارفور وتلاحق الضالعين فيها. صحيح أن الوثائق المذكورة تمنح مجلس الأمن صلاحية تكليف المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في جرائم بعينها في بلد بعينه، وذلك ما يبدو أنه قد حصل بشأن اتهام البشير، ولكن السودان ليس عديم الحجة، من الناحية القانونية الصرفة، لصدّ ذلك المسعى.
وذلك، على ما يبدو، ما يعلمه وما تحسّب له مدّعي المحكمة الجنائية الدولية، وهو الحقوقي المحنك، إذ استنجد، وهذا هو مفاد التجاوز الذي أقدم عليه وسبقت الإشارة إليه، بمبدأ اعتبره متساميا على كل قانون، بما في ذلك القوانين الناظمة لعمل محكمتـ»ـه» الجنائية، هو المتمثل في مبدأ «القضاء الكوني» (universal jurisdiction)، ذلك الذي تردد على لسانه بإلحاح، مسوغا اعتبره ناجزا مكتفيا بذاته في توجيه التهمة إلى الرئيس السوداني. والحال أن المبدأ ذاك لا تتضمنه النصوص المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية، وهي التي حصرت صلاحية تلك المحكمة في الدول المصادقة عليها، بل قد يمثل الأخذ به إخلالا بتلك النصوص، طالما أن هذه الأخيرة تبقى، في نهاية المطاف، مراعية لسيادة الدول، إذ تجعل من القبول بتلك المحكمة، والخضوع لأحكامها من عدمهما، أمرا اختياريا أي سياديا.
بهذا المعنى يكون الأخذ بمبدأ «القضاء الكوني»، على نحو ما فعل مدعي المحكمة الجنائية الدولية، إخلالا بركن أساسي قام عليه القانون الدولي، مفاده التسليم بسيادة الدول، وهو ما لا تشذ عنه المحكمة إياها، واعتناقا لفلسفة قانونية أخرى، هي تلك التي تبنتها بعض الدول، الغربية في المقام الأول، أضفت على محاكمها المحلية صلاحية ملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة والتصفية الجسدية خارج القانون والتعذيب والاختفاء أو الإخفاء القسري للأشخاص، وذلك على اعتبار أن ذلك النوع من الجرائم يُقترف ضد الكل، أي الجنس البشري برمته، وهو بذلك يلزم كل محكمة بملاحقته إلزاما لا يمكن لأي اتفاق أو معاهدة دولية أن يجبّاه. وذلك مهما كان مكان ارتكاب مثل تلك الجرائم وجنسية مقترفيها وهويتهم (ما يعني غض الطرف عن الحصانة التي يتمتع بها رؤساء الدول بمقتضى القانون الدولي). ذلك المفهوم الذي تبناه مدعي المحكمة الجنائية الدولية لتبرير ملاحقة البشير، علما بأن إنشاء تلك المحكمة أريد منه الحد من مبدأ «القضاء الكوني» وفق هذا المفهوم، هو الذي كانت اعتمدته بلدان كبلجيكا لتشريع صلاحية محاكمها المحلية في النظر في ذلك النوع من الجرائم.
قد يبدو المفهوم ذاك قابلا لجدل كبير، فهو يقوم على الانتقاص من سيادة الدول أو تجاوزها دون أن يحدد لذلك مقاييس مُجمعاً عليها ولا يعين المراتب والهيئات المخولة مثل ذينك الانتقاص والتجاوز، ما قد يحيل أمر مثل تلك الملاحقات إلى مجال الاستنساب، والفوضى تاليا، ويرتدّ بها إلى التسييس. غير أن المفهوم ذاك يبقى واعدا مع ذلك، إن صير إلى استكمال بلورته ومأسسته، فهو قد يساعد على ملاحقة دول تقترف الفظائع ولكنها تتحصن بالسيادة أو بعدم مصادقتها على هذا النص أو ذاك، فيمكّن من استنهاض القضاء الكوني ضد إسرائيل أو الولايات المتحدة أو سواهما.
ثم ان المفهوم ذاك إذ يسعى إلى إخضاع السيادة، وهذه مبدأها الإطلاق، إلى القانون، فيبدو بذلك مجترحا لأمر جديد على الصعيد الدولي، لا يفعل غير سحب مبدأ كان الأفعل في اجتراح الديموقراطيات الحديثة في بلاد الغرب على المجال الكوني. إذ ما الديموقراطية إن لم تكن تدجينا لمراتب السيادة وتحكما في جموحها؟ والموضوع هذا ما يستحق تناولا على حدة.
ولأن أمر «القضاء الكوني» على ما قدمنا، فهو قد يستحق من قبلنا تناولا أكثر جدية وتدبرا له لا يتوقف عند مجرد الإدانة والهجاء والاشتباه بمؤامرة تستهدف تمزيق «قطر شقيق».
الحياة – 27/07/08