قوة الصورة إذ تستغني عن التعليق أو تُناقضه أحياناً
نهلة الشهال
هل رأيتم «صورة الأسبوع»؟ من زاوية أوروبا هي تلك التي تظهر جثتي فتاتين صغيرتين ممددتين على شاطئ بحر نابولي، في إيطاليا، يحيط بهما جمع من المستجمين المنصرفين إلى انشغالاتهم العادية: هذا يقرأ وتلك تضع زيتاً واقياً من الشمس على جسدها وثالث يتمشى بمحاذاتهما تماماً، مثرثراً على هاتفه النقال… ويمكن للخيال أن يكمل المشهد، فهناك بالتأكيد على مقربة منهما أطفال يلهون، يشيدون قصوراً على الرمل. مستحم ما غطى الجثتين بمنشفة سباحة كبيرة، وبقيتا هكذا ساعات. يقول الخبر المرافق أن الفتاتين (11 و12 عاماً) جاءتا من مضرب للغجر قريب من الشاطئ، وأنهما باعتا للمستجمين ما تيسر من «حراتيق» تحملانها ثم قررتا مع رفيقتين أخريين النزول إلى الماء، وهما على الأرجح لا تعرفان السباحة، وكان البحر صاخباً بشكل خاص يومها. نجت الأخريان وأسعفتا وغادرتا المكان. ليس الغرق هو الموضوع بالطبع، فهذا قد يحدث لأبناء أحسن العائلات! بل هي اللامبالاة العامة. ولأنهما من الغجر، أو ممن يطلق عليهم في أوروبا «الروم» (نسبة إلى رومانيا)، ارتدت تلك اللامبالاة معنى مضاعفاً: حيال حرمة الموت، وكتمييز بغيض ضد جماعة بعينها، حيث يختلط في مكونات النبذ اعتبارات عدة، من بينها الفقر المدقع والتوجس المصحوب بإشاعات أقرب إلى الخرافة عن تلك الجماعة بالذات التي أعمل فيها هتلر ذبحاً بموازاة ذبحه لليهود، ولكنها لم تحظ فيما بعد بما حظي به هؤلاء الأخيرون من شعور بالذنب حيالهم واندفاع لتعويضهم. فحتى بين الضحايا هناك درجات، ولا تبقى الضحية ضحية عادية متى ما أمكن للجماعة التي تنتمي إليها أن تمتلك مقومات القوة.
صحيفة «لاريبوبليكا» التي نشرت الصورة ثم نقلتها عنها سائر الصحف الأوروبية، عادت فنشرت تصريحاً نارياً لرئيس أساقفة مدينة نابولي يدين فيه عدم الاكتراث ذاك. ثم تعددت التحليلات: هي ايطاليا بيرلوسكوني هذه التي تفضح قسوتها أمام أعيننا، هي نابولي التي غمرتها القمامة لأشهر لأن تنظيم جمع النفايات يخضع لقانون سطوة المافيا على شؤون المدينة، هي أوروبا التي صوت مجلس اتحادها منذ أسابيع قليلة على قانون لتنظيم الهجرة يحمل سمات بوليسية تداني أحلام الجماعات الفاشية ضد الفقراء والمهاجرين (وقد يمكن الاستغناء عن واو العطف بين الكلمتين، ولكن الإبقاء عليها يحيل إلى تعدد دوائر المستهدفين).
ولكن، وبالعودة إلى المقارنات، ثمة ما يتجاوز دائرة الوعظ الديني-الأخلاقي الذي قام به أسقف نابولي، أو التحليلات السياسية والسوسيولوجية عن سيادة المشاعر العدائية ضد الآخر، سيما حين يكون غريباً وفقيراً. هناك شيوع لمفاهيم قيمية «جديدة». وهي جديدة لأنها باتت معلنة في تبرير أفعال الدول المهيمنة، ومكررة بعادية في وسائل الإعلام كما لو كانت من البديهيات. ولا يُلحظ في هذا السياق مقدار امتلاكها لنسب شديد إلى سالفتها الفاشية، لأنها في اغلب الحالات تستخدم مفردات تقنية تغلف مدلولاتها. من تلك مفهوم «الأضرار الجانبية» الذي يعلن عن وقوعها حين تطبق عقوبات أو تشن حروب: العقوبات على العراق أودت بحياة خمسة ملايين طفل، صرحت بصددهم مادلين اولبرايت، وزيرة خارجية أميركا وقتها، انه ثمن ضروري «مع الأسف» لاحتواء صدام حسين! ولعله تشن غداً غارة جوية نووية «تكتيكية» على إيران، مع أضرارها الجانبية كثمن آخر مقبول لتحقيق هدف سياسي… وفي الأثناء يستمر كل يوم سقوط عشرات القتلى من المدنيين في أفغانستان، وجلهم من القرويين، يموتون كأضرار جانبية لغارات غير فعالة ضد مواقع إرهابية، وكذلك في فلسطين. وفي اتجاه يناقض هذه الايديولوجيا السائدة، أصدرت محكمة اسبانية هذا الأسبوع مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، بعضهم، كآفي ديختر ودان حالوتس، ما زال في دوائر السلطة، وبعضهم الآخر كبنيامين بن اليعازر، يمثل رموزاً في إسرائيل، وذلك بتهمة ارتكاب مجازر حرب حين أمروا بشن غارة جوية على منزل صلاح شحادة قائد كتائب عز الدين القسام في غزة، الذي يقع داخل بناية في حي مكتظ، فسقط جراء تلك الغارة، علاوة على «الهدف» -وزوجته وطفلته- عشرات القتلى، اغلبهم من الأطفال. ويتوقع أن يثير قرار المحكمة الاسبانية ضجيجاً واعتراضات، كما حدث في بلجيكا منذ سنوات التي اضطرت إلى تغيير قانونها لتلافي شموله مثل هذه الصلاحية الدولية!
ما علاقة ذلك باللامبالاة حيال جثتي كرستينا وفيوليتا، الغجريتين الصغيرتين الغريقتين؟ إن كان من صدمة واستنكار، فلأن الواقعة وقعت في عقر دار الغرب وليس في الأطراف. ولكن غياب الاكتراث بالجسدين الصغيرين الممددين وسط استمرار حياة المحيط، (هل يمكن تصور ذلك لو كانت الجثتان لطفلين ايطاليين «عاديين»، أو كانتا لسائحين أميركيين أو ألمانيين مثلاً. ألم يكن من البديهي استبقاء شرطي بقربهما، تسييج مكانهما بانتظار استكمال الإجراءات القانونية، إبعاد المستحمين عنهما، تأثر هؤلاء لموت الطفلتين غرقا… لو كانتا طفلتيهما!)، غياب الاكتراث إذن ينطق بانتمائهما إلى الغجر كجماعة برانية… يمكن أن تكون حياة أفرادها بلا قيمة، تماماً مثل ضحايا «الأضرار الجانبية» في بلدان العالم الفقيرة، وقرينتها التي لا تقل عنها فظاعة، عنيت «الحرب الاستباقية». وأما المحاجّة بأنه لا يجب الجمع بين الظواهر ولا الخلط بين الإحداث، فتفكيك متعام إرادياً أو عن غباء، لا فرق، يهدف إلى تسخيف تلك الأهوال بحيث ينفي عنها خيطها الجامع الواشي بوجود منظومة قيمية تهيمن، شيئاً بعد شيء، على العقول والأحاسيس العامة، بعدما أدت مفاهيمها إلى نسج إيديولوجيا – كمنظومة فكرية وتبريرية كلية – ترددها الدوائر السياسية ووسائل دعايتها. ويخطئ من يظن أنه يجري هنا كلام عن «مؤامرة»، فالأمر قائم في العلن، وهو فصيح، ولكنه متصاحب مع ادعاء الانتماء إلى إجرائية برغمائية فحسب، وفي هذا تحديداً يكمن التزوير لطبيعته.شيء أخير حدث بالتزامن، وهو الآخر ينتمي إلى عالمي الصورة والايدولوجيا التي لا تقول اسمها: سائق الجرافة الفلسطيني الذي حاول مطلع الأسبوع صدم السيارات في القدس قبل أن يُقتل على يد «مدني مسلح» بحسب وكالات الأنباء التي لم تر تناقضاً في الإعلان: كيف يكون المدني مسلحاً؟ إلا في إسرائيل حيث يتجول المستوطنون ببنادقهم الرشاشة في الطرقات ويقتلون من يشاؤون، فلا حساب إن كانت الضحية فلسطينية: من حاسب الجندي في الحادثة السابقة المشابهة التي وقعت منذ اقل من شهر، حيث رأيناه يصعد إالى الجرافة ويطلق النار على رأس الفلسطيني الذي كان أصلاً قد أصيب بجراح وبات من السهل السيطرة عليه. قيل ذلك في بعض التعليقات الصحافية، ثم نُسي الأمر. كانت عملية إعدام أمام عدسة كاميرا توفر وجودها في المكان، تماماً مثل هذه المرة، حيث تسنى لنا رؤية «المدني المسلح».
هناك عدالتان، يجسدهما إقرار وقبول بالقيمة غير المتساوية لحياة البشر. وليس في هذا أي جدة. فقد كانت تلك هي الحال قبل…العصر الحديث، حيث اقر قيمياً وقانونياً ودستورياً (وإن لم يكن تطبيقاً) مبدأ تساوي البشر في الحقوق. إننا نشهد نكوصاً علنياً عن ذلك له تعبيرات متنوعة… ليست تلك الأمثلة السالفة إلا بعضها- ولعلها ليست أكثرها كشفاً للحالة – إذ جرى في الولايات المتحدة في ظل الرئيس الحالي، إقرار جملة قوانين مستوحاة من تبني فكرة «العدالتين»، كلها بحجة الحرب الشاملة والدائمة على الإرهاب. هل يوضح ذلك ارتباط الظواهر ببعضها؟!
الحياة – 27/07/08