ما بعد نظريّة المؤامرة؟
حازم صاغيّة
درجت الثقافة السياسيّة العربيّة والإسلاميّة على ردّ سلبيّات الحياة العامّة، والخاصّة أحياناً، الى المؤامرة. والأخيرة احترفها الغرب وإسرائيل ومن التحق بهما من ضالّين ومضلَّلين، فاسدين ومفسَدين، في الداخل.
فنحن مفتّتون لا بسبب تراكيبنا والملليّة الضاربة جذرها في الزمن العثمانيّ، وربما في أزمنة أبعد، بل بسبب سايكس بيكو. والهزائم تنزل بنا لا بسبب ضعف داخليّ، بل لأن الإمبرياليّة تتآمر مع الصهيونيّة للحيلولة دون انتصارنا. والعراق ولبنان والفلسطينيّون محتربون في ما بينهم لأن عدداً من الأشرار في واشنطن وتل أبيب، ينضمّ إليهم أحياناً أشرار في لندن وباريس، يجعلوننا مشهداً متواصلاً للتنابذ والفرقة.
لهذا حين كانت تداهمنا حقائق تنمّ عن عكس ذلك، كنّا ننسبها الى «تجاوزات» و «سوء فهم» و «خلافات بين أهل الخندق الواحد» وبين «الأخوة» و «الرفاق»، منبّهين الى ضرورة «اليقظة» و «الحذر» لقطع الطريق على المؤامرة وأصحابها.
وهي لغة عريقة يصعب أن تختفي بسهولة، وقد لا تختفي بتاتاً. غير أنها شرعت تفسح المجال للغة أخرى تجاورها. فالانفجار الأخير في غزّة لم يقل أحد من المعنيّين إن إسرائيل وراءه: «الحمساويّون» اتّهموا «فتح» واعتقلوا قادة فيها و «كوادر»، بينما «الفتحاويّون»، اتّهموا «حماس» تبعاً لما سمّوه نزاعات في داخلها.
أما اشتباكات طرابلس، فلم تحلْ الإشارات العابرة إلى «طرف ثالث» و «طابور خامس» من دون تهم غير مسبوقة في صراحتها، تناقلتها وسائل الإعلام جميعاً، عن نزاع «السنّة» و «العلويّين».
في الحالة الأولى، ظلّ القوميّون العرب، أو بقاياهم، ينبّهون من إسرائيل، لا بوصفها المتّهمة بالانفجار، بل بوصفها المستفيدة منه ومن تمادي الصراع واستطالته. وفي الحالة الثانية، راح اليساريّون، أو بقاياهم، يؤكّدون على أنها حرب «الفقراء والفقراء». غير أن المعنيّين بالبؤرتين على نحو مباشر كانوا يتجاوزون التنبيهات ذات المصدر التآمريّ أو الافتراض الحداثيّ المبسّط (أمّة… طبقة الخ.).
فهؤلاء كأنّهم باشروا معانقة الواقع كما هو من دون تزويق. إلا أنه بدل أن يكون واقعاً مداناً وعرضة للنقد والنقض، يتبدّى معطى عاديّاً من طبيعة الأشياء. ذاك أننا نتقاتل فحسب، وما المشكلة في أن نتقاتل؟
وأغلب الظنّ أن انتقالاً كهذا الى ما بعد نظريّة المؤامرة يتغذّى من مناخ عامّ يشكّله عنصران يتمدّد حضورهما على مدى المشرق العربيّ فيما يعمل الإعلام التلفزيونيّ على إدخالهما الى كل بيت وكلّ رأس.
الأوّل أن النزاع السنّيّ – الشيعيّ في العراق ضيّقَ على نظريّة المؤامرة بقدر ما ضيّق على نظرية الوحدات، عربيّة كانت أم إسلاميّة. صحيح أن القائلين بالدور الأميركيّ في تفتيت العراق لا تزال أصواتهم كثيرة ومرتفعة، إلا أن قدرتها على الإقناع تتراجع على نحو يوميّ. فالنزاع المذكور بات مستقلاًّ بذاته عن الاحتلال، وهو ما يتفجّر بين عرب وعرب (فالطرف الآخر ليس كرديّاً أو دارفوريّاً)، كما بين مسلمين ومسلمين (فالطرف الآخر ليس مسيحيّاً أو يهوديّاً). والعنصر الثاني أننا، حسب الروايات النضاليّة المتكاثرة، نعيش زمن انتصارات «للمرّة الأولى» في تاريخنا الحديث. وإذا كان «النصر الإلهيّ» وتتمّته في استرجاع الأسرى والجثامين يجبّان ما قبلهما، محيلين كلّ ديجور نوراً، فإنّهما يعيشان على مقربة من مشروع إيرانيّ صاعد بدوره ربّما تسنّى له أن يتسلّح بأنياب نوويّة، وهو يوميّاً يهاجم الغرب ويتحدّى إسرائيل ويهينهما وينقضّ عليهما. ولا يخلو الرصيد السوريّ من انتصارات تترجمها عودة جزئيّة، إنّما مجلجلة، الى لبنان، مصحوبة بعودة الى العالم من البوابة الفرنسيّة. ومن يحرز انتصارات كتلك يكون قد أحبط المؤامرة وهزمها، تاركاً لها مهمّة أشدّ تواضعاً هي محاولة منعه من تحقيق انتصار آخر.
بيد أن العنصرين هذين لا يحصلان في عالمين منفصلين، بل في عالم واحد شديد التداخل، بعيد التأثّر والتأثير. هكذا يرتسم مشهدنا على النحو الآتي: نحن نحقّق انتصارات باهرة بينما نقيم في قلب تفتّت واحتراب باهرين. بهذا تكون التتمّة المنطقيّة لواقعنا كما نرسمه: نعم إننا نتقاتل، وما المشكلة في أن نتقاتل ما دمنا، في ظلّ هذا التقاتل، نحقّق انتصاراً من طراز ملحميّ؟ بمعنى آخر، يمكن، في وقت واحد، هضم الانتصارات وتجشّؤ العفن.
المفارقة أن مغادرة كهذه لنظريّة المؤامرة تحمل على استمطار الرحمة على النظريّة تلك!
الحياة – 29/07/08