صفحات سورية

فن بناء الكراهية

null
خالد غزال
تسود المواطن اللبناني الكثير من علامات الدهشة والاستغراب حول الهدوء الكلامي والامني الذي ساد فجأة بين الاطراف المتصارعين عقب تشكيل الحكومة، لكن المواطن يتساءل في الوقت نفسه عما اذا كان المظهر الخارجي السائد هدوءا موقتا ام مستمرا. يأتي التشكيك من الخبرة التي بات اللبناني يملكها في التفريق والتمييز بين الحقيقي والشكلي من الامور، ومن معرفته بالتكاذب الذي تتقنه هذه القوى، ومن الادراك ان نزعة عامة من الكراهية ترقد تحت هذا المظهر الخارجي، وهي كراهية تعمل الجماعات اللبنانية، وخصوصا منها الطوائف – الاحزاب، على بنائها وهندستها بشكل يغطي كل المساحات النفسية والذاتية.
ليس هناك اكثر من المظاهر والميادين التي تتجلى فيها الكراهية بين اللبنانيين، طوائف واحزاباً وجماعات وافراداً، فشحنها متوافر عبر وسائل متعددة لدى كل طرف. ليست اقامة اللبنانيين في الكراهية حديثة وابنة حوادث معينة، بل هي تضرب عميقا في الداخل اللبناني منذ عقود، لكنها اليوم تعرف مستوى من “التطور” والتصعيد تجاوز ما هو مألوف في الحياة اللبنانية. تنبني الكراهية على الاضطهاد الذي يطاول مجموعات لبنانية على أيدي مجموعات اخرى، ويزداد عنف ردود الفعل لدى من يعتبر ان اخضاعه يعني اخضاع المجموعة الطائفية التي ينتمي اليها. في بلدنا اللبناني لا تفريق في الهوية بين الطائفة والانتماء الى الوطن، بل تحتل الهوية الطائفية الموقع الاول في الانتماء. فأن تشعر طائفة بأن طائفة اخرى قد “هزمتها”، فهذا يساوي في نظرها إلحاق المذلة والمهانة بها وبرموزها، وهو شعور مدمر وتترتب عليه آثار خطيرة في العلاقة الراهنة والمستقبلية. كل ما يقال اليوم من كلام تجميلي حول العلاقات بين الطوائف، هو كلام مبني على “تقية” يمارسها الجميع. فـ”الحروب الاهلية الصغيرة” التي عرفتها البلاد في الاشهر الاخيرة لا تزال تحفر عميقا في النفوس وتؤسس لمزيد من الابتعاد الداخلي. تنتعش الكراهية بين اللبنانيين من خلال استحضار الرموز والمس بها والتشهير بماضيها. “يتفنن” اللبنانيون في تحقير رموزهم، الدينية منها او السياسية، وينبشون احقادا وصراعات مضى عليها زمن طويل واعتقد المرء انه قد تم تجاوزها، فاذا بها ترقد في الحاضنة وتلد من العداوات ما لا حصر له، وكأن الف سنة من مرور الزمن لا يعني شيئا في “التراث الذهني والثقافي” الذي تحمله هذه الجماعات. لا يكتفي اللبنانيون باستحضار الماضي وصراعاته بل “يتلذذون” في نبش القبور الحديثة المتصلة بوقائع الحرب الاهلية المندلعة والمستمرة منذ ثلاثة عقود، فاذا بنا امام مشهد متجدد للمجازر والقتل على الهوية والتنكيل بالجثث، و”تحديث” اخراجها في وسائل الاعلام بما يجعل راهنيتها محفزا لمزيد من التوتر واستعادة “المترسة” بين القوى المتصارعة، وبما يجدد الاحزان بين اهل الضحايا، وهو تجديد يهدف الى الاستعداد مجددا للثأر والانتقام.
يوفر الاعلام بوسائله المتنوعة، المرئي منه والمسموع والمقروء، وسائل وتقنيات حديثة تساعد في الشحن على الحقد والكراهية عبر ما تقدمه من برامج تستحضر كل ما يثير الغرائز والنعرات، ويؤجج النفوس المهتاجة اصلا بعضها ضد البعض، وعلى قاعدة “من ليس معنا فهو ضدنا”. تقدم البرامج التوثيقية والاخبارية والمتصلة بلقاءات عاملين في السياسة، كل ما يثير التوتير، من خلال تزوير الحقائق والوقائع استنادا الى اكاذيب باتت من “الوجبات” الدائمة، بحيث يصعب التمييز بين الحقيقي وغير الحقيقي في ما تطرحه هذه الوسيلة او تلك. ما عرفه البلد على امتداد اشهر سبقت من خطب قائمة على التخوين والتكفير والاتهامات المتبادلة مقرونة بسقط المتاع من الكلام البذيء والمقذع بين القوى المتصارعة، لهو دليل على القدرة الفائقة في “تعييش” اللبنانيين في اجواء الرعب والخوف من تحول هذا الخطاب الكلامي الى رصاص ومدافع.
وراء المظهر المخادع السائد حاليا من معسول الكلام، يتحضر البلد الى موجة من العداوات يجري الاستعداد لتجهيزها واخراجها بشكل يجعلها ذات فاعلية. موسم الانتخابات النيابية المقبلة، يشكل ارضا خصبة لكل انواع التحريض ونبش المستور وغير المستور، واختراع اساليب مناسبة للتشهير بالخصم و”جندلته” بالضربة القاضية. من المعروف تاريخيا ان الانتخابات النيابية تشكل مصدر قلق واضطراب في الحياة اللبنانية لما تتسبب به من قلاقل وتستثيره من خلافات كثيرا ما يكون منها قد جرى نسيانه. الانتخابات المقبلة ستشهد “افلاما مرعبة” من العنف الكلامي والمادي ونبشا لما قد لا يمكن تخيله منذ الان من عناصر التحريض العائلي والعشائري والطائفي والمذهبي وغيرها من العوامل المساعدة والمؤججة للكراهية. بدأت طلائع هذه المعركة في التبلور، وبدأ شحذ الاسلحة بمختلف انواعها، ويجري تحضير اللبناني لمنازلات ستطيح قلة قليلة جدا من التعايش الذي لا يزال قائما.
ان بلدا تتحضر قواه لخوض هذه “المعارك” الكلامية ظاهرا، يصعب ان يبقى اسير الكلام. والكلمة مقدمة للرصاصة، والاشهر المقبلة ستكون حبلى بالاحقاد والكراهيات والتقاذف بالاتهامات المتنوعة. ان بلدا يحبل بمثل هذه “الثقافة” سيلد بالتأكيد، وسيكون المولود موجات من العنف والقهر والمآسي تطاول الجميع من دون استثناء.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى