“الاكورديون” والفرص الضائعة
الياس خوري
هل نعيش الفصل الأخير من مرحلة بدأت مع هزيمة الخامس من حزيران، ام ان مشهد النعوش التي حملت بقايا الشهداء، من مقبرة الأعداء، التي تسمّى ايضا مقبرة الارقام في اسرائيل، ليس سوى احد مشاهد هذه الحرب المستمرة، منذ الهزيمة الحزيرانية؟
لن اتوقف عند عناصر من الخطاب الثقافي العربي، تمجد المقاومة، من دون ان تتساءل لماذا لا تشارك بقية البلدان العربية فيها، وخصوصا التي تمتلك حدودا مع دولة الاحتلال، فهذا سؤال سوف يدخلنا في جدل يكشف الانحطاط الفكري، الذي هو احدى علامات الهزيمة. كما لن أتساءل لماذا على المقاومة ان تعيش في ظل انظمة الاستبداد العربية، ولا تكون جزءا طليعيا من النضال الديموقراطي، لأننا نعرف من التجربة اللبنانية المريرة في السبعينات ان ثمن هذه المشاركة كان باهظا، وقاد الى وضع المقاومة في مواجهة استراتيجيا “الاكورديون” – والتعبير لياسر عرفات – حيث تناوبت اسرائيل ونظام الاستبداد العربي في الاطباق عليها، مثلما حصل في الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982، وما اعقبه في الشمال اللبناني، حيث اضطر الفدائيون الى ركوب البحر ولكن من طرابلس، تلك المرة.
كانت تكتيكات عرفات تتلخص في الهرب من لحظة اطباق “الاكورديون”، وكان تقدير القيادة الفلسطينية ان الطرف العربي في هذا “الاكورديون” الرهيب، لن يجروء على الذهاب الى نقطة اللاعودة. غير ان التانغو الصراعي الذي ابتدعه النظام السوري، اثبت خطأ التقدير العرفاتي، الذي وجد نفسه في النهاية مضطرا الى الهرب الى الأمام، وخوض معركته الأخيرة في رام الله.
أعود الى السؤال الذي لن أجد جوابا لبنانيا عنه. اذ يستطيع اللبنانيون ان يقولوا ان مقاومتهم للاحتلال الاسرائيلي قد انجزت اهدافها، وآن للوطن الصغير ان يرتاح. لكن هذا القول المنطقي سوف يصطدم بواقع الانقسام الطائفي اللبناني، الذي فرض بعد نجاح “الأكورديون”، تلزيم المقاومة للطائفة الشيعية، وللتيار الخميني في الطائفة، اي لـ”حزب الله”. وقد تمفصل هذا التلزيم، الذي طرد القوى العلمانية واليسارية من المقاومة بالقوة، على البنية الطائفية اللبنانية، بعد اتفاق الطائف، وسيادة التفسير السوري لهذا الاتفاق.
لا اريد ان يساء فهمي. فالانقسام الطائفي ليس سببا لاستمرار المقاومة، بل هو المرض الأساسي للبنان، وأحد امراض المقاومة. ما اردت قوله، هو ان هذا الانقسام، الذي اتخذ شكل حرب اهلية مفتوحة منذ العام 1975، سمح عبر الشقوق التي احدثها في بنية الدولة والمجتمع، للمقاومات المختلفة، بأن تجد فيه ملجأ.
لكن ضرورة المقاومة تأتي من مكان آخر مرتبط بوضع المنطقة العربية بعد هزيمة حزيران، وعجز حرب تشرين بقيادتها الساداتية عن الوصول الى ما يتجاوز الاستسلام.
اصيبت السياسة الاسرائيلية بما يشبه العماء بعد الانتصار الكاسح والسهل عام 1967، وبدل ان تتعلم شيئا من دروس حرب تشرين، قام “الليكود” بزعامة مناحيم بيغن بترميم الهوس الماسياني الصهيوني، وقد ساعده في ذلك، الانهيار الساداتي، الذي اشار الى انه عليك كعربي ان تنتصر في الحرب، او تصبح على مشارف النصر، كي تسمح لك اسرائيل بالاستسلام!
واذا كانت اسرائيل تقبل باستسلام الدول العربية على مضض، فانها ليست مستعدة للقبول باستسلام فلسطيني سوف يكون ثمنه الانسحاب من الضفة وغزة، وتأسيس دولة فلسطينية على خُمس فلسطين.
من الطبيعي ان يخلق هذا الواقع حالا من اللاستقرار وردود فعل متعددة. المسألة عكس ما تخيّله المحافظون الجدد في الادارة الاميركية. فلسطين ليست قضية هامشية، يمكن اهمالها، وتركها تتعفن في الذاكرة. فلسطين ليست ذاكرة نكبة، بل نكبة تتجدد كل يوم في الاراضي المحتلة، وفي مخيمات الشتات. من هنا كان من الطبيعي، بعد هزيمة الانتفاضة الثانية، عبر تواطوء وحشي بين شارون والادارة الاميركية، ان تنشأ قوى مقاومة بديلة، ترفع الشعارات الاسلامية. كما كان من الطبيعي ان تملأ ايران الفراغ الذي تركه النظام العربي العاجز، عبر التقدم الى حدود فلسطين. حاول النظام العربي ان يفعل شيئا في قمة بيروت، لكنه كان عاجزا عن مواجهة الرفض الاسرائيلي بالتلويح بخيار آخر، فترك عرفات الى مصيره، وفلسطين الى المجهول.
لكن التاريخ لا يعترف بالفراغ، فتغيّر الخطاب، من دون ان تتغير طبيعة المواجهة، وعاد لبنان “ساحة”، بفضل قدرة النظام السوري على الاستمرار في سياسة المواجهة المحدودة بالجناح اللبناني، كي لا يتعرض المتن السوري للأذى.
الواقع الظرفي، وتقاطع المد الايراني الاصولي مع المصلحة السورية، والتمفصل على البنية الطائفية اللبنانية، اعطى المقاومة هذا الشكل الموقت الذي تتخذه اليوم. لكن هذا ليس سوى تعبير عن رفض الهزيمة المتمادية منذ حزيران 67 في المشرق العربي، بالمتاح والممكن في هذه المرحلة.
تشير تجربة المقاومة الفلسطينية في لبنان وفلسطين، الى ان الخروج من مأزق “الاكورديون”، ليس ممكنا، في ظل الأنظمة الاستبدادية. “الاكورديون”، يمكن ان يعمل في كل لحظة من لحظات التطابق في المصالح، وليس شرطه الوصول الى سلام سوري – اسرائيلي مثلما يعتقد البعض.
اي ان لعبة “الاكورديون”، صارت جزءا بنيويا من ادارة النظام العربي لعجزه وممانعته في آن واحد.
غير ان الحق ليس على لاعبي موسيقى الموت، بل على اللبنانيين الذين وضعوا وطنهم بين فكَّي “الاكورديون”، بسبب البنية الطائفية، التي تجعل الطوائف اللبنانية ادوات للخارج. فالطائفيات تعتقد انها تستطيع عبر الخارج الهيمنة على الآخرين، متناسية ان هيمنتها هذه تُفقدها الوطن.
التراجيديا اللبنانية، التي تتحول في لغة السياسيين المتقلبة اشبه بمسخرة، لها اسم واحد هو اضاعة الفرص. وربما كانت فرصة لبنان الأخيرة، التي ضاعت للأسف، ان يقدم نموذجا لتحرير الأرض بلا تنازلات ولا مفاوضات. لكن المرحلة الأولى من لعبة “الاكورديون” سوف تربطه بالمفاوضات السورية – الاسرائيلية، تمهيدا للاطباق على احتمالات الاستقلال والسيادة والحرية. والى آخره.
النهار