مع السودانيين جميعهم في محنتهم
موفق نيربية
من أكثر الأحداث العالمية إثارة في الأيام الأخيرة حكاية إلقاء القبض على رادوفان كارادزيتش رئيس صرب البوسنة الهارب من العدالة منذ ثلاثة عشر عاماً. ومن اللافت أننا لم نسمع احتجاجاً عربياً على ذلك الاعتقال، ربّما بسبب جرائمه ضد مسلمي البوسنة، التي كتمت الرفض التلقائي لآليات الهيمنة الغربية، رغم انها العدو الأوحد ومن دون تحفظ عند كثيرين.
في حين ان طلب المدّعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية اعتقال الرئيس السوداني عمر البشير استثار ردود فعل غاضبة، بعضها بصوت عال وبعضها خافت مرتبك فاجأته المسألة. كما لم يتردد الاتحاد الإفريقي في اتخاذ موقف سريع، وهو المعني بما يحدث بالسودان ودارفور خصوصاً، وبدا على الجامعة العربية الارتباك المذكور، ثم أصدرت قرارات مبهمة ذهبت للتباحث فيها مع صاحب المسألة.
ثم تبين في ما بعد أنها تقترح مخرجاً- مؤقتاً- وافق عليه البشير، وهو محاكمة المتّهمين في السودان، تحت مراقبة إفريقية ودولية. مثل هذا الأمر قد يتيح هامشاً بسيطاً للمناورة، بالطلب من الأمم المتحدة أن توقف إجراءات المحكمة الدولية. ومجلس الأمن معني عند رفض الالتزام بقرارات المحكمة فحسب، وهو الأمر الذي يفتح باباً للشدّ والجذب، لكنه لن يستطيع لفلفة القضية، ولن ينهيها. وقد أصبحت باباً مشرعاً للرياح لن ينغلق أبداً.
لا يمكن إهمال الملاحظة المريرة حول هذه المحكمة وموقف الولايات المتحدة وإسرائيل الرافض للتصديق على اتفاقية تأسيسها، والانضمام إليها، لكن شمولها دولاً أخرى قابلة للاتّهام- مثل السودان حالياً- سوف يفتح الباب أيضاً لشرعية قضايا حقوقية يمكن رفعها ضد هاتين الدولتين.
ما يبقى لدينا هو «الكفاح» من أجل ألا تعتدي المحكمة على حصانة رؤساء الدول، القائمين على رأس عملهم على الأقل، ما لم تتغير المعادلات وتشمل الرؤساء بعد انتهاء مدتهم. وحتى هذه ليست مهمة عندنا، لأن هؤلاء سوف يتشبثون أكثر بألا تنتهي ولايتهم أبداً.
والمزاح هنا يكتسي بالسواد قليلاً، لأن قضية دارفور هي الأكبر في ضمير الإنسانية خلال السنوات الأخيرة. ونحن لا نعلم ذلك- للأسف- كما يعلمه الآخرون.
فهنالك مئات آلاف ضحايا القتل العنصري، وأكثر من مليون مُهجّر، وقصص تشيب لهولها الولدان، تتكرر فيها عمليات القتل والاغتصاب البربرية. ولم يشفع الانتماء الديني والتاريخي الواحد لأهل دارفور، ليعلوه الانتماء «العرقي» ويتغلب عليه، مكتسياً بالايديولوجيا القومية أحياناً، وبالوقوف في وجه أطماع الغرب أحياناً أخرى، ومنعاً لتجزئة أرض الأمة المقدسة أحياناً ثالثة.
لكن ذلك لا يمنعنا من التأنّي والقلق، مع الانتباه إلى خطورة المسألة على أي موقع يحتاج إلى تسوية، وقد تتعرض جهود السلام الداخلي فيه إلى انتكاسة خطيرة بفعل مثل هذه القضايا. ذلك حتى لو كانت هذه هي ذريعة المذنب دائماً.
مع ان التاريخ القريب لا يدعم كثيراً هذه المخاوف، ويُظهر أن اعتقال سلوبودان ميلوسيفيتش (كما اعتقال كارادزيتش حالياً) ساعد على تحقيق استقرار حقيقي في يوغوسلافيا السابقة وحتى في تعميق برامجها الوطنية والديمقراطية أيضاً، الأمر نفسه الذي ظهر جلياً في ليبيريا، التي أرسلت رئيسها السابق تشارلز تايلور إلى المحكمة، واجترحت طريقاً مدهشاً ومفاجئاً بعد ذلك. هذا يُظهر تماماً أن مفهوم الاستقرار مراوغ وخدّاع، وأن الاستقرار الأعمق ليس في ما يبديه الحكام والسياسيون للإعلام وجماعتهم وشعوبهم.
وفي ذلك قضية مهمة، نشتكي منها بصوت خفيض، أو نكظم غيظنا بقهرٍ. هي «الكتمان»، الذي يستعين المجرمون به على قضاء حوائجهم، أو التعتيم بالأحرى، فالجريمة تكون جليّة واضحة وضوح الشمس، وعليك نسيانها وتجاهلها، والملك عارٍ أمام عينيك. يحدث أحياناً مع شعبنا ما حدث مع شعب ذلك الملك في الحكاية، فيستفزّه مَن يقول الحقيقة ويأنس إلى تصديقها، منعاً للشر أن يستطير.
ويقول بعض السودانيين العقلاء، عن حق، إن الإجراءات كانت متوقّعة، والحكومة لم تتحسّب قانونياً أو سياسياً لها. ويقولون إنه من غير الوارد إخفاء ما يجري في دارفور من مأساة تتحمل الحكومة مسؤولية تفاقمها. كما أن المخرج من الأزمة لن يكون إلا بمواجهة المشكلة فوراً بمشاركة الجميع من جهة، وإنجاز التحول الديمقراطي من دون تلكّؤ ومماطلة من جهة أخرى، حتى يقتنع العالم بجدية التوجه إلى حل مسألة دارفور أولاً، ثم لمصلحة الشعب السوداني البعيدة أيضاً.
ينصح هؤلاء كذلك بالانتهاء من سياسات المواجهة مع المجتمع الدولي من طريق المسيرات والتهديدات، وبالموضوعية في بحث المسائل القانونية والتعاون مع الهيئات الدولية والتفاهم معها «بهدف التوصل إلى حلول تعزز السلام والأمن والاستقرار في السودان».
وهذا كلام حق عاقل، ينفع الرئيس البشير وزملاءه، والشعب السوداني وأشقاءه.
* كاتب سوري
الجريدة