أيهما الوحش هنا؟
أكرم شلغين
تمتم أحدهم برغبته في أن يعرف إن كانت المعنويات العالية، بالرغم من سنوات السجن الطويلة، للأسير المحرر سمير القنطار والصحة الجيدة الباديتان عليه يمكن أن تمرا دون لفت الانتباه واستحواذ التعليق! ثم أخذ الأمر من جهة مختلفة متسائلاً عما هو الأكثر تدميراً على أي إنسان: أن يخدم في السجون الإسرائيلية، ولأي سبب كان، لمدة تسعة وعشرون عاماً أم أن يقع بين أيدي محقق لدى مخابرات نظام الأسد لمدة تسعة وعشرون يوماً بسبب توقيعه على عريضة من أجل الإفراج عن سجين سياسي، أو أن يكون معتقل رأي أو كاتب مقال حول الأوضاع العامة في سوريا ممن “احمرت العين” منه أو عليه…!؟ وتساءل أيضاً إن كان أي نظام “عربي” آخر يعامل سجناء بلاده بشكل يتناسب ومعاملة الإنسان! ليست هذه الأسئلة والملاحظات إلا تعبيراً عن بعض من الهموم الكثيرة مما في قلوب ملايين العرب، وماذا يمكن قوله عن موضوع السجون العربية عامة والسورية منها على وجه التحديد، خاصة في هذا الوقت وسط أنباء غير كاملة وغير صادقة في الرواية الرسمية للنظام الفاشي القابع في دمشق ومشوبة بالغموض عما حصل في سجن صيدنايا وسقوط عدد من القتلى لانعرفه بدقة!؟ (وليست أيضاً بالدقيقة تلك القادمة من بعض منظمات حقوق الإنسان في سوريا، ولا في تقديرات بعض “المعارضين” كما هو واضح من تناقضات ومبالغات لاتصعب ملاحظتها).
وإذ تثير الانتباه معنويات وصحة القنطار وتحكي الكثير فإننا لن نغفل أن لمدى صلابته وعزمه دوراً كبيراً كي يبدو في ما بدا عليه، وبنفس الوقت لن نتجاهل حقيقة أن السجناء العرب في السجون الإسرائيلية تعرضوا للتعذيب والانتهاك (وخلافاً لما تنص عليه المواثيق الدولية، فقد “شرعَنه” و”قونَنه” الإسرائيليون خاصة حينما اعتبروا أن السجين العربي يتكتم على معلومات يريدون، لسبب أو لآخر، معرفة تفاصيلها)، ولكن، في واقع الأمر، يبقى التعامل الإسرائيلي مع السجناء العرب ينطلق من أساس اختلاف الانتماء بين السجان والسجين، إسرائيلي وعربي وما يكرسه ذلك التضاد من واقع تاريخه يحكي عن حروب وصراعات طويلة وتعاكس اتجاهات أهداف واستراتيجيات. ولا نود كذلك هنا تحديداَ مقارنة السجون الإسرائيلية بالعربية، فليس ذلك الموضوع بغير المطروق من قبل، خصوصاً عندما يأتي الأمر إلى التعامل الإسرائيلي مع السجين الإسرائيلي.. ولا يوجد من السوريين، بين الآخرين في المنطقة، من لم يجد نفسه أحياناً مضطراً لوضع صورة التعامل الإسرائيلي مع الإسرائيليين بمقابل نظيرتها لدى الأنظمة العربية مع من تتسلط عليهم في البلدان التي تسيطر عليها، ونقرأ أن بمتناول يد السجين الإسرائيلي ييغال أمير (الذي اغتال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين) جهاز الهاتف والتليفزيون والكومبيوتر واتصال بالانترنت بل ويمنح حق الزواج وهو في السجن، وليس هذا المثال بالنادر. فلنتذكر أن إسرائيل لم تقتل أوتسحل مردخاي فنونو (الخبير النووي الإسرائيلي) بسبب “الضرر” ـ من وجهة النظر الإسرائيليةـ الذي ألحقه بإسرائيل عندما أكد للعالم مالم تعترف به إسرائيل على الإطلاق عن سلاحها النووي؛ كما ولم تتعامل المؤسسة الرسمية الإسرائيلية إلا بالشكل الذي يمكن وصفه، بالحد الأدنى، باللائق، مع الإسرائيليين فلم تقتل الضباط الذين يرفضون الخدمة هنا أو هناك (غزة أوغيرها..) ولم تتهمهم بالخيانة العظمى؛ ولم تعاقب بالأشغال الشاقة مدى الحياة ابراهام بورغ رئيس الكنيست الإسرائيلي السابق وما تفوه به وما كتبه عن إسرائيل ووصفها بالعنصرية بل ولم تنكل بعرب الداخل بالرغم من أن بينهم من يوضح موقفه المعادي لإسرائيل بل وبعضهم أقام علاقات حميمة ونشاطات مع من تصنفهم إسرائيل بين أعدائها… بخلاف نظام الأسد الذي قتل بالتعذيب الشاب الصغير محمد عبود (لأنه حاز على ، أو ربما وزع منشور في حينه، لـ”رابطة العمل الشيوعي”) وجيء بجثته لترمى تشفياً وعبرة أمام المارة في ساحة انطلاق الميكروباصات في الحي الذي عاش به. وفي ذاكرتنا تتراكم وتتنافر الصور، من الماضي ومن الحاضر، عما يفعله نظام القتلة للسوريين وعما تفعله إسرائيل لمواطنيها، لتجعلنا نسائل كل ما قيل ويقال عن إسرائيل ووصفها وطبيعتها وحقيقتها مقارنة بالنظام الحاكم في دمشق.
لو أراد أحدنا الكلام عن السجون السورية فلن تستطيع كلماتنا الاقتراب كثيراً من الدقة في الوصف نظراً للسوء واللاإنسانية التي يتبعها سجّانو وجلادو نظام الأسد، وتفشل أفواه السجناء وكلماتهم عن وصف التعذيب والانتهاكات التي تحصل بها وتعجز معهم ما تقدمه الأقلام المتميزة في وصف التعذيب في “شرق المتوسط” في أن تأتي بصورة يمكن رؤيتها بالأهول والأفظع مما يحصل في سجون نظام الأسد من تعذيب جسدي وإذلال وقتل نفسي وروحي، ويبقى من بين القواسم المشتركة بين سجناء النظام السوري والسجين المصوّر في الكتب هو العيش في الماضي/الحاضر، ولايختلفون عن بعض إلا بالتفاصيل، وما يكتب عن سجين “شرق المتوسط” الذي تلبس رأسه عوالم السجن والقهر والحطام النفسي فيأخذها رغماً عنه أنى رحل حتى ولو ذهب بجسده إلى عوالم الحضارة واحترام حقوق الإنسان ليس بغير الدقيق على سجين همجية ووحشية نظام الأسد؛ وليست إلا نقطة من بحر العذابات تلك التي تصورها قصة م.ك.الخطيب القصيرة من عجز الزوج، الخارج من التحقيق، عن الاستجابة لزوجته وفشل جسده في أن يتحرك بمعزل عن شروط دماغه المأسور بالتعذيب النفسي الذي علق معه منذ اللحظة الأولى لوجوده بين يدي المحقق. لن يأتي الوصف بجزء بسيط من عذابات “السجين السياسي” في سوريا، فهناك قصص عامة للسجين عنوانها السجن إلا أن في داخلها قصص أخرى (وهذا يحتاج لموضوع آخر غير هذه المناسبة). في معظم الكتابات عن السجون في سوريا يكاد وصف التعذيب الجسدي يطغى على النفسي وأثره، وثمة تجارب من السجن في “سورية الأسد” من الواضح أن البعض لايريد إخراجها ليس حرصاً على صورة الجلاد وإنما خوفاً على سمعة الضحية السجين! كثُر هم من تكلموا عن “الكرسي السوري” و”كسر الظهر” و”بساط الريح” و”طيور أبابيل” و”التعليق” و”الكهرباء” و”الدولاب” و”الكابل” و”الزنزانة” و إطعام الفأر ومنع السجين من التبول إلا بعدد مرات محددة في اليوم أو وضع السجين بشروط صحية أدت إلى التهابات وتركت أمراض جسدية مستعصية وانتهت أحياناً بالموت..و تجرأ البعض على ذكر إدخال الزجاجة في شرج السجين أثناء التحقيق وذكر بعض الأكراد عن اغتصاب سجان لسجين كردي. وهناك من يروي، شفهياً، أن سجاناً مهووساً بإذلال السجناء كان يغتصب من يحلو له جنسياً وكيف أن شاباً فلسطينياً “أنقذ نفسه” من براثن المغتصب.. فقيل أن بقية السجناء شرحوا للشاب الفلسطيني، الذي جيء به لاحقاً لمهجعهم، عن السجّان الذي يغتصب، وعندما أتت اللحظة التي نبهوه إليها وجاء السجان وأراد أخذه من بين البقية ليغتصبه سارع السجين وانحنى لتقبيل عضو السجان المنتصب مبينا قدر استطاعته أنه يتشوق لذلك ويريده فما كان من السجان إلا أن تركه مكتفياً ببضعة شتائم يصف بها السجين بكذا وكذا وكذا وبأنه صد شهيته. يروي من كانوا في مهجع السجين تلك الواقعة ويتكلمون عن ذكاء الشاب في إنقاذ نفسه من الاغتصاب ولكنهم يتناسون أنه وإن نجا الاغتصاب الجسدي (الاختراق) إلا أن ما حدث لا يخلو من الاغتصاب النفسي. نذكر تلك الحادثة ليس حباً في سردها، فتلك تبعث على الشعور بالغثيان، في أدنى الحالات، لو كان المقصود من ذكرها استعراض آلام الناس، ولكننا نوردها للتذكير بما يفعله نظام الإجرام في دمشق والنهج المتعمد لإذلال الناس، ونكرر أن العذاب النفسي والتصدعات والأمراض التي خلفتها سجون الأسد في نفوس مجربيها أعمق وأعقد من أن نتكلم عنها بهذه البساطة أونختصرها بكلمات لاتنجح في نقل ما يدور في أعماق وخفايا النفوس، إنما ينفع الكلام هنا دائماً في إبقاء أفعال هؤلاء المجرمين دائماً حية ماثلة لايسقطها تقادم ولاتنساها الأجيال ولتزيدنا من التصميم على العمل الحثيث من أجل شعبنا.
أكثر من سجين سابق كرر رغباته في فعل شيء ضد هؤلاء المجرمين الجاثمين في كراسي الحكم في دمشق وأعوانهم الجلادين (وهم يميزون أن سوريا لا تختزل في شرذمة)، ولاتزال كلمات أحد السوريين (وهذا لم يكن يوماً بالسجين!) الذي كان يبتزه بطريقة قذرة أحد ضباط المخابرات ويستدعيه بشكل مستمر طالباً منه أن يقدم تقارير لهم عن أصدقائه.. فقد ذكر أنه كان بوضع نفسي اختزلت فيه أمانيه إلى واحدة فقط وهي أن يخرج سليماً من بين براثن القتلة ويهرب لأي مكان في العالم ليسرع إلى أقرب سفارة إسرائيلية ليعرض خدماته ضد هؤلاء (جدير بالذكر أنه عقب أثناء حديثه قائلاً إنه لم ولن يفعلها في الحقيقة)، ونتذكر هنا ما أورده أيضاً أحد الصحفيين عن لقائه بشباب سوريين ذاهبين إلى العراق باحوا بما في أنفسهم من تفضيل الموت مقتولين على يد الأمريكيين على أن يحقق معهم مخابرات الأسد… الأمثلة كثيرة والصور أكثر عن الوضع والشروط التي وضع بها السوريون، ولو شئنا وضع ذلك في الميزان وقسناه بكل المعايير لرأينا أن تلك الصور والأمثلة تدفعنا لنسحب على حرفية سؤال إحدى شخصيات شكسبير عمن هو اليهودي بين شخصين متحاكمين (طبعاً مع الأخذ بعين الاعتبار الشكل الذي قُدمت به صورة اليهودي ووُصف به في المسرحية المعنية وكذلك ما بنى عليه النقاد منذ النصف الثاني من القرن العشرين من معان في حرفية التساؤل: “أيهما التاجر هنا، وأيهما اليهودي؟” (بورشيا في مشهد المحكمة الشهير في “تاجر البندقية”(IV.i))، فإذا ما تمعنّا في الوصف الذي يقدمه النظام السوري (والأنظمة العربية عامة) عن إسرائيل، وبنفس الوقت وضعنا تعامل إسرائيل مع مواطنيها بجانب تعامل الطغمة الحاكمة في دمشق مع السوريين (Juxtaposition)عندها لا يستدعي أن يتوقف، المرء توخياً للدقة كي يجيب عن السؤال الإبلاغي “أيهما “البعبع” و”الوحش” و”الشيطان” هنا، وأيهما المتحضرّ؟” فالصور والواقع أبلغ من الكلمات، وسلوك نظام الحقد في دمشق مع السوريين يحكي أن العوالم التي أنتجت هؤلاء غريبة عنا.
كاتب سوري – ألمانيا