لا بد من وسيلة للتمييز بين سيادة الحاكم والسيادة الوطنية
صالح بشير
قد لا يعدو التعريف الشائع والمتداول للديموقراطية أنها النظام القائم على فصل السلطات الثلاث، (تضاف إليها، على سبيل المجاز، رابعة هي التي تنهض بها الصحافة)، أن يكون توصيفا لها خارجيا، يقتصر على الجوانب الإجرائية التي، والحق يُقال، سمة لها فارقة تميزها عن كل نظام سواها، يحسبها مستوفية لكنهها، والأمر ليس كذلك، لأن التعريف ذاك يمثل «رسْماً»، يعرف الشيء بخصائصه الخارجية، لا «حدّاً»، يعرف الشيء في ذاته.
أما ما قد يكون حدّ الديموقراطية فهو أنها نظام الحكم الذي اجترح، في صيغته الحديثة، للمرة الأولى ربما في التاريخ البشري، فصلا بين مراتب السيادة ومراتب الحكم، فحيّد تلك، دون أن يلغيها ضرورةً، بأن أحالها إلى حقل رمزي، ودجن مراتب الحكم، بأن جعلها تعمل في نطاق مقنن، بتفويض مشروط ومحدد زمنياً، يُنال بالاقتراع وعلى أساس برنامج هو بمثابة العقد. يصح ذلك مبدأً، ليس فصل السلطات إلا بعض تجلياته العملية، على سائر الأنظمة الديموقراطية المعلومة، عدا استثناءات نادرة كذلك المتجسد في الجمهورية الفرنسية الخامسة، جمهوريات برلمانية، هي القاعدة المطّردة في ذلك المضمار، أو ملكيات دستورية، حيث يسود العاهل ولا يحكم.
ذلك هو المبدأ الخفيّ الذي قامت عليه الديموقراطيات. خفيّ لأن الفكر الليبرالي لا يجهر به أو نادرا ما يفعل، إذ أنه مال إلى مداورة فكرة السيادة دون التصدي لها، فبقيت شأنا انشغل به الحقوقيون الرجعيون (بمعنى المعادين للديموقراطية) من الفرنسي جان بودان، إلى اللاهوتي الكاثوليكي الإسباني دونوزو كورتس، إلى الفيلسوف الألماني كارل شميت. كل هؤلاء ومن شايعهم انتقدوا النظام الديموقراطي لإخلاله بمبدأ السيادة التي عرّفها شميت بأنها «سلطة القرار في اللحظات الاستثنائية». والحال أنه ليس أكره على الديموقراطية والآخذين بها من «الاستثناء» وتبعاته، تعليقا للقوانين وانفرادا بالحكم يبلغ مبلغ الاستبداد، يزاوله صاحب سيادة متعالية، جامحة بصفتها تلك وآبقة عن كل تحكم أو مراقبة أو حدّ.
غير أن المشكلة أن «السيادة» بعد ضروري لكل اجتماع سياسي، فهي مناط الشرعية، ولا سبيل إلى القفز فوقها أو إلى إلغائها، ومن هنا فرادة الحل الذي اهتدت إليه الديموقراطية لتذليل ذلك الإعضال، إذ عمدت، على ما سبقت الإشارة، إلى الفصل بين مراتب الاضطلاع بالسيادة ومراتب مزاولة الحكم، فجعلت الأولى تخص ملكا دستوريا أو رئيسا في جمهورية برلمانية، يتوقف دورهما عند أداء الوظائف البروتوكولية والتشريفية والتمثيلية العليا (تمثيل الدولة)، وجعلت الثانية إجرائية، بلا قداسة، «دنيوية» أو «زمنية»، أي نسبية قابلة للمحاسبة والإطاحة سلمياً، أداتها الاقتراع، تداولا لا ينهي نظاما قائما بل يجدده.
وبذلك، تكون الديموقراطية نتاج تلك المساومة، وهذه ما كانت كذلك إلا لأنها، إذ حيّدت «السيادة» ومراتبها دون أن تلغيها، جعلتها بندا من بنود الديموقراطية ومكوّنا من مكوناتها. فملكة بريطانيا جزء من الديمقراطية البريطانية لا يتجزأ، وملك إسبانيا، خوان كارلوس، كان منقذ الديموقراطية الإسبانية الوليدة، عندما تهددها في سنواتها الأولى انقلاب.
هل يمكن لمقاربة للديموقراطية كتلك، أن تُسحب على المدى الكوني، تحكما في جنوح السيادات المحلية يحد من غلوائها حاكمةً، بحيث يُستعاض في ترويضها بالضمير الإنساني، وبأدوات يتوسلها كالمحاكم والمنظمات الحقوقية العابرة للأوطان، عن الافتقار إلى الديموقراطية؟ دعاة «العدالة الكونية»، كمدعي المحكمة الجنائية الذي وجه الاتهام للرئيس السوداني البشير بارتكاب جرائم حرب في دارفور، وسواهم من دعاة «الحق في التدخل» الذي وجد تعبيره إنفاذا أثناء حروب يوغسلافيا السابقة، يجيبون بالإيجاب، فيعتبرون أن سيادة الدول تكف عن أن تكون مطلقة إذا ما اتُّخذت ذريعة يتحجج بها طاغية للبطش بشعبه أو ببعضه، فيرتكب بحقه جرائم حرب أو جرائم في حق الإنسانية.
ليس الطرح هذا غربيا، وإن تولاه في المقام الأول غربيون، وهو تاليا ليس بالمؤامرة ضرورة ولزاما. فالولايات المتحدة ضد مبدأ «العدالة الكونية» أو تتحفظ عليه أشد التحفظ، وكذلك الحال بالنسبة إلى إسرائيل مع أنها مارسته واستندت إليه عندما قامت، في ستينات القرن الماضي، باختطاف مجرم الحرب النازي، أدولف أيخمان. وقد سبق لهنري كيسينجر أن كتب، منذ إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، مفندا مبدأ «العدالة الكونية»، ذاهبا إلى ضرورة الإبقاء على سيادة الدول، لأن المساواة في السيادة، وإن بالمعنى القانوني والشكلاني، هو المبدأ الذي يتأسس عليه المعمار العالمي وعلاقات الأمم في ما بينها. وقد ساجله في ذلك دعاة نسبية السيادة سجالا حادا.
هو إذن منحى في التفكير جديد، تنهض به أوساط تهجس بالحقوق الإنسانية الأصلية، وإن خالطت هاجسها ذاك، أحيانا، مسبقات سياسية أو ثقافية ليست بريئة، تسعى إلى التحكم في مبدأ السيادة، وإلى إخضاعه لمبادئ أو لمرتبة تحد من غلوائه. وذلك المنحى جدير بأن يؤخذ على محمل الجدّ. فالحال أن الأمر ذاك يثير إشكالات عديدة، أبرزها أنه إذا كان قد صير إلى تحييد مراتب السيادة في الأنظمة الديموقراطية، بمساومة أدرجتها فيها، وإذا كان الأمر ذاك قد تحقق بإجماع لم يتخلف عنه الحائزون على السيادة، خصوصا في حال الأنظمة الملكية، فليس واضحا كيف يمكن التوصل إلى مثل تلك المساومة على صعيد الدول، في علاقاتها في ما بينها أو في علاقتها بالرأي العام العالمي المفترض، وهل يمكن لذلك أن يتحقق بغير قسر أداته إرادة خارجية، ما يفضي إلى إعادة تحكيم الاعتبارات السياسية في تلك العدالة الكونية المنشودة؟
والنقطة هذه ليست عديمة الأهمية، إذ أن مبدأ السيادة على الصعيد الداخلي، أو على صعيد علاقات السلطة الداخلية، غيره على الصعيد الدولي، إذ أنه يعني، في هذه الحالة وفضلا عن ذلك، السيادة الوطنية، تلك التي يفضي «الحق في التدخل» إلى انتهاكها، بمناسبة كف يد الطاغية، مناط تلك السيادة ومجسّدها، عن شعب أعزل أو عن فئة من شعبه عزلاء. ومن زاوية النظر هذه، ليس تحفظ كيسينجر بالأمر النافل أو المردود تماما، بل يطرح مشكلة حقيقية.
وهكذا، إذا كان تحييد مراتب السيادة قد تطلب من الديموقراطيات الفصل بينها وبين الحكم، فإن ذلك المطلب قد لا يتيسر نيله كونياً، إلا بالاهتداء إلى وسيلة، يبدو بلوغها، للوهلة الأولى، من باب تربيع الدائرة، تميز بين سيادة الحاكم والسيادة الوطنية.
الحياة – 03/08/08