صفحات سورية

أنتـــــم الأجانـــــب

null

عباس بيضون

هانيبال القذافي ابن معمر القذافي وليس للوالد في النظام الليبي الذي يلغي الدولة ويقيم مكانها المؤتمر الشعبي الذي هو سلطة مباشرة منتخبة من المجالس الشعبية. ليس للأب رسمياً في النظام الليبي سوى اسم »القائد« وهو اسم معنوي، أما الابن فيعيش في سويسرا بعيدا جدا عن ليبيا والنظام الليبي. أخضعت الشرطة السويسرية الابن للتحقيق اثر ادعاء خادمتيه عليه بأنه اشترك مع زوجته بضربهما. لقد طبقوا عليه القانون السويسري. وهو قانون نظام أقل ديموقراطية من حكم المجالس الشعبية. لنقل أقل شفافية فالعقيد القذافي ملهم النظام الليبي لا يجد في الديموقراطية سوى حيلة النخبة للاستيلاء على الحكم باسم الشعب. لكن التهمة هي ضرب خادمة ولا نعرف إذا كان حكم المجالس الشعبية يسمح بتقسيم الشعب بين خادم ومخدوم ويأذن بوجود مهنة أقرب الى الرق، لأنها تملك من كل وقت صاحبها بدلاً من امتلاك جسده. لا نعرف بالطبع إذا كان حكم المجالس الشعبية يسمح بالضرب. لكنه ابن القائد وقد تجاسر السويسريون على مقاضاته بتهمة ضرب خادميه، ومع أن القائد بلا سلطة إلا أن الشعب الليبي نزل الى الشوارع واعتقل حكم مجالس الشعب بعض السويسريين وقرر حكم المجالس قطع البترول عن سويسرا. التناقضات ظاهرة ولا حاجة الى شرحها، حكم مجالس الشعب يستنفر للدفاع عن ابن القائد الذي لا سلطة له ويدعمه ضد ضرب خادميه. الليبيون الذين نزلوا الى الشارع لم ينظروا اليه في التهمة، ما دعاهم الى الاحتجاج هو أن السويسريين يطبقون قانونهم على ابن الشعب الليبي، فابن القائد الليبي لا يجري عليه قانون البلد الذي اختار العيش فيه. إنه تحت قانونه الخاص أين عاش وكيف عاش. تحت نظامه مهما كان نظام البلد الذي يتظلل بسمائه. ليس للأجانب سلطة عليه حتى في بلادهم. إنهم الأجانب حتى ولو ذهب هو إليهم وفضل العيش بينهم. إنهم الأجانب حتى في بلادهم، لا يخطر بالطبع ان الليبي أو المسلم هو الأجنبي في سويسرا، أو فرنسا أو الدانمارك. أو أن قانونه ونظامه أجنبيان في غير بلده. السويسري والفرنسي والدانماركي هو الأجنبي أين كان، في بلده أو بلادنا وقانونه هو الأجنبي في بلاده أو بلادنا. ولن يكون تطبيقه علينا حتى في بلاده سوى قهر واعتداء وكيد ونكاية. لا نسأل بالطبع عن منزلة القائد وابن القائد في حكم بلا دولة بحسب ما يدعي. لا نسأل عن حكم ضرب الخدم في نظام المجالس الشعبية، فالجواب مفحم وحاضر: لا خدم في نظام المجالس الشعبية. على هذا، فإن من يضرب خادمته لا يضرب أحداً. التهمة غير ذات صفة من الأساس مثلها مثل الكلام عن حكم القذافي، فإنه لا يحكم وما تراه من نزول الليبيين الى الشارع واعتقال السويسريين وقطع البترول الذي لم يقطع في أكثر الظروف السياسية احتداداً، كل ذلك لم يحدث لأن القذافي لا يحكم وابنه ليس من السلالة الحاكمة. لكن ثمة مسألة واضحة، إنهم الأجانب ونحن لسنا هم. قانونهم قانون أجانب وحكمهم حكم أجانب وقرارهم قرار أجانب وهم أجانب حتى في بلدهم. وما يفعلونه ليس لنا ولا يجري علينا، إنه بالطبع افتئات واعتداء، لأنهم أجانب ولأنهم ليسوا نحن. هكذا يمكن مثلاً أن نفهم كيف نشرت الممرضات الأجنبيات السيدا، وقرينة ذلك الأولى أنهم أجنبيات. أما كيف أطلقن بعد ذلك برغم ما فعلن، فللسبب نفسه، لأنهن أجنبيات ولا يجري عليهن قانوننا ولا شرعنا.
قد يكون هذا هو المثل الأكثر ركاكة، لكن الأمثلة الأخرى تنبع من المبدأ نفسه. إنهم هم ونحن نحن ولا يجري علينا قانونهم، إنهم أجانب حتى في بلادهم وقانونهم غير ذي صفة حتى في بلادهم. ذهب عمر البشير الى دارفور وهناك وهو يرقص بالعصا أعلن حملة سلام وتنمية وأقفل عائدا. إذا كانت هذه الحملة حاضرة وممكنة فلم تركت الحرب الأهلية تفترس الإقليم؟ ولماذا ذهبت كل النداءات والتدخلات الأولى سدى؟ لم يكن سقوط وتشرد وجوع مئات الآلاف ليساوي قلامة من المس برئيس البلاد.
وها هو الرئيس يغدو قادراً ورئيساً في مواجهة الأجانب. أما الذين دعموه واستقبلوه فلا يزالون يحسبون أن الدم الأخوي أقل وصمة من التدخل الأجنبي، مثلهم مثل الذين لا يزالون يفضلون الحروب الأهلية والدم الأخوي على »الأصابع الخارجية«، فالأصابع الداخلية وهي تقطر دماً وإجراماً وكراهية لا تزال »أصابعنا« ولا تزال منا ولا نزال نحن، أما اليد الأجنبية فهي عار علينا ولو كانت غير دامية وغير داعية الى الدم. ليتركونا نقتل بعضنا بعضا. أحكامهم ودعواتهم ومحاكمهم وقراراتهم أشد علينا من سكاكين إخوتنا ومتفجراتهم وجرائرهم كلها.
منذ فترة كانت الوزارة الهولندية في قلق مقيم لقد حاول الوزراء ما استطاعوا الحيلولة دون بث فيلم نائب يميني ضد الإسلام والمسلمين. لم يخفوا اعتراضهم ودعوا الى تجاهل الفيلم وحصر بثه في أضيق نطاق، لكن القانون وهم لا يستطيعون مع القانون شيئاً. إنه القانون وليس فيه ما يمنع عرض الفيلم. كانت ليلة ليلاء عرض فيها الفيلم، لكن ساعة الصفر مرت ولم يحدث شيء. لم يكن في الفيلم سوى الشائع المعاد، إنه قانونهم هم ونحن نريد أن نكون دائما تحت قانوننا وأن نردهم أجانب في بلدهم ونرد قانونهم أجنبياً في بلده. نريد أن نعيش تحت قانوننا في بلدنا وغير بلدنا، ويكون كل ما يتعلق بنا بما في ذلك إيماننا وثقافتنا، تحت هذا القانون.
لقد نال الدانمركيون ونالت سفاراتهم ما نالت بسبب هذا القانون اللعين قانونهم الذي لا يمنعهم من التعرض للأديان بما في ذلك دينهم. إنهم الأجانب ولأنهم كذلك فإن في ما فعلوه إساءة وإهانة. لم يخطر لنا ما قاله محمد حسنين هيكل من أن رموزا كبيرة راسخة لا يمكن أن تهان أو يساء إليها. لا يمكن أن يهان المسيح أو بوذا بالطبع بكلام لا يخرج عن هذا التجديف الذي لا يزال على ألسنة الناس ليل نهار، والذي ليس في غالب الأحيان سوى عادات كلامية ولا سبيل لحصره أو مراقبته. لم يخطر أن الإهانة فوق مطال رسم كاريكاتوري وأن الحضور الهائل لشخصيات صنعت التاريخ لا يحتاج الى دعم في الشوارع ولا يحتاج بخاصة الى التدمير والتخريب اللذين يسيئان أكثر من أي شيء آخر. ثم ان من الغريب ان يطلق هؤلاء الغاضبون العنان لألسنتهم في ذم الأديان الأخرى ونعت أصحابها بالكفار والإفتاء بقتلهم أحياناً، وأن يتم ذلك أحيانا في بلاد الأجانب أنفسهم مستغلين قانونهم فيما نريد إخضاع الأجانب وفي بلادهم ودولهم لقانوننا الخاص والذي ليس سوى قانوننا الخاص، ولا نقول إنه قانون ديننا، ما دام أهل الدين مختلفين فيه ولا يستوون إزاءه على رأي واحد.
لم يكونوا أجانب أولئك الذين سمحوا بإغراق العبّارة المصرية وإغراق ألف مسكين منها، إنهم منا لذا لم نشعر بإهانة كتلك التي شعرنا بها حين مس رئيس وابن رئيس، ولكننا تركنا الشعب يموت بالسيدا كما تركنا الألف بتمامه يغرف في اللج ويذهب أثره. لم نشعر بإهانة لأن ألف إنسان عوملوا أقل من العبيد، وأسلموا الى أسوأ من الموت، لكننا ثرنا وثارت كرامتنا لأن هناك من انتصر لخادمين عربيين من سيدهما. غرق ألف إنسان، لكنها ليست جريمة إذ لم يجد القضاء فاعلا حقيقيا، إنه قانوننا نحن هذه المرة لا قانون الأجانب، قانوننا وتحت سمائنا وفوق أرضنا الذي يسمح بخنق ألف إنسان في الماء. قانوننا ونحن به ضنينون أما قانون الأجانب الذي يرفع الضرب عن الخدم فهو قانون الأجانب، وليس مهماً أن ينصف خادمين منا وليس مهما أن يبقى ألف إنسان في القاع.
ها هي الصور، اتركونا نقتل ونغرق بعضنا في بلادنا ونضرب خادماتنا في بلادكم. وانصرفوا عنا فنحن لا نريدكم في بلادنا ولا نريدكم في بلادكم. أنتم الأجانب. دعونا منكم لا تنصحون بالسلم ولا القانون ولا الدولة ولا المجتمع. إن فعلتم لك وصمتونا أكثر من الدم الذي يصم تاريخنا وحاضرنا، نريدكم بعيدين. أنتم لا تفهمون بالطبع كيف يكون الحكم طرفا وكيف يكون الحكم حربا. لكنكم لن تفهموا أكثر كيف لا يكون هناك حاكم ويكون حكم وتكون سلالة حاكمة. انكم لا تفهمون كيف نكون بلا قانون ونريد أن نعيش بينكم بقانوننا ونريدكم أجانب في بلادكم حتى حين نفضل بلادكم على بلادنا وحكوماتكم على حكوماتنا. وحين نستغل قوانينكم لذمكم وذم شرائعكم وإيماناتكم. نريدكم بعيدين أو بالأحرى نريدكم قريبين جدا. قريبين قرب الشيطان نفسه، لنلقي عليكم تبعة كل شر وكل ريبة ولنتهمكم فيما خصكم وخصنا. لندين انفسنا بكم أو ندينكم في أنفسنا ويخدمكم فيما بيننا وبين ضمائرنا فيما بينا وبين عقولنا توسوسون لنا وتندسون في قلوبنا وجوانحنا وعقولنا. فتكونون ابليس الحارس وتملون علينا كل دسيسة، فنرد إليكم ما نفعله بأيدينا وما نقرره بإرادتنا. إلا أننا مملوكون ممسوسون مدارون. فالحروب الأهلية بسلاحنا ودمائنا وأجسادنا صنيعكم، والفساد والانحطاط والتجلد (من الجليد) من وحيكم، فنحن أدواتكم وصنائعكم وما فعلناه براء منه الى يوم القيامة. أنــتم الأجانب في بلادكم وبلادنا. في قانونكم وقانوننا. في أنفسكم وأنفسنا.

لسفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى