عن الفعل السياسي في الحاضروالمستقبل
آرام كربيت
إننا نعيش في عصرسريع يحتاج إلى ديناميكية سياسية عملية وفاعلية اجتماعية حيوية تسعى بشكل حثيث للتأقلم مع التغييرات التي تطرأ على العالم وتستجيب للتطورات التي تنشأ عليه من أجل تحسين الوضع الداخلي والتفاعل مع الخارج وفق مقتضيات الداخل. فاعلية وسرعة تعرف كيف تستثمرالعلاقات الخارجية من أجل توظيفها في الشأن الداخلي, فاعلية سياسية واجتماعية معبرة عن كل القوى السياسية, حيوية نشطة ومتجددة الدماء والطاقات يعرفان كيف يوفقان ما بين النزاعات والخلافات والانقسامات الداخلية والقدرة على احتوائها والتعامل مع التناقضات الخارجية بما يخدم مصالح الداخل وفق نظام ديمقراطي, نظام يمثل كل القوى السياسية, يعمل على إدخال الحسابات السياسية الداخلية في أية نقلة نوعية في علاقاته مع الخارج, نظام فيه فصل للسلطات, يعمل على إدخال التنمية وحاجات الفرد المادية والروحية والمعنوية في الحسابات السياسية ذات البعد الاستراتيجي الطويل الأمد, ليكون عوناً واستثماراً في تناقضاتنا مع الخارج.
إننا نحتاج إلى إعادة ترتيب اوضاعنا على أسس تحترم الاختلاف والتعدد في كل مناحي الحياة سواء كان سياسي أو فكري أواجتماعي ونتعامل مع المجتمع كمصدرثروة وغناء وعطاء ومحاولة تطويره بدل كبح حركته والاستئثاروالتحكم به ودفعه إلى الاقتتال والتناحروالصراع.
لذلك فأن حركة القوى الاجتماعية وديناميكيتها وفاعليتها يحتاج إلى فضاء سياسي واسع حتى تتسق تموضعاتها وتتداخل مصالحها بما يؤدي إلى تقوية اللحمة الداخلية لنكون مستعدين للتحولات العميقة التي تطرأ على العالم وعلينا.
إن النظام السوري تكلس على كل المستويات, وتكلست معه كل المستويات والقطاعات التي عمل فيها سواء كانت اقتصادية أوسياسية أواجتماعية. وما زالت آلياته السياسية البالية تعود إلى حقب قديمة, حقب مضى زمانها ولم تعد تأتي أكلها إلا بديمومة السلطة واللعب بالوقت الضائع للبقاء أطول وقت ممكن في السلطة دون أن يلوح في الأفق أية مشاريع سياسية أو أقتصادية تنعكس على الوضع الاجتماعي لبلدنا ووطننا. .
الحقيقة هناك أزمة في العلاقة ما بين النظام والمجتمع, أزمة في العمق, نظام يضع أمنه وبقاءه وتفوقه في ميزان علاقته مع الداخل واستمرارهذه العلاقة على كل المستويات بما يسمح له التحكم بكل الامورمن خلال تفتيت كل ما يمكن تفتيته. إن الاعتماد على القوة, وسيطرة منطق القوة والاحتكام لها في علاقته مع الداخل في غياب القانون, ومصالح الشرائح والفئات الاجتماعية الأخرى وضع لا يمكن أن يستمرإلى ما لا نهاية, لأنه يدفع الأزمة إلى التراكم لتأخذ الأمورشكل انفجاري في المستقبل القادم.
لقد أخفق النظام السوري في بناء الدولة لكل المواطنين, وحول الدولة إلى مأخورخلفي يرتع فيه مع زبابيته والمقربين منه. لم تعد الدولة السورية, دولة لكل المواطنين السوريين, إنما أضحت لشريحة اجتماعية واحدة مستاثرة بالسلطة والثروة والنفوذ والجاه, ولم يعد هذا النظام, ولم يكن نظاماً سورياً إنما وكيل الآخرين في ديارنا, يستغل ثقل سوريا وموقعها ليحسن من موقعه. ونتيجة تراكم الدمار والخراب الداخلي لم يعد هذا النظام قادراً على امتصاص التناقضات الداخلية وحلها.
كما إننا نشهد اليوم على وضع جديد, وضع أقليمي ودولي غني بالتناقضات والصراعات, شديد التبدل في المواقع والحركة والانقلاب, يحتاج إلى أدوات ومفاهيم تغوص في العمق, ورشة عمل تدرس وتبحث وتقيم وتضع الأطروالأفكار, ورشة تتظافر فيها جهود الجميع في صنع المستقبل. إننا في وضع مختلف كلياً عما كان سائداً فيما مضى من الزمان, إننا نشهد كيف تم تجريد هذا النظام من أغلب مصادرالقوة التي كانت تمده بسل البقاء على قيد الحياة, من أوراق مهمة, زمن لم يعد يحتاج فيه الكبار, الدول الكبيرة إلى تجار سياسة صغار, لقد أنتهى ذلك الزمن الذي يسمح للأنظمة الضعيفة والمعزولة والذي لا عمق لديها من اللعب في تناقضات ومصالح الدول الكبيرة. وها نحن نشهد كيف يخرج نظام العجزة في دمشق في النهاية من علاقاته الأقليمية والدولية وهو خالي الوفاض, عارياً تماماً من ورق التوت. إننا نرى كيف خرج جيشه ومخابراته وزلمه واستزلامه من لبنان, خرج لبنان من يديه بالكامل, وما زلنا نسمع كلام كثيرله جذورفي الواقع عن قرب إقامة علاقات ندية معه وإقامة سفارة وترسيم للحدود, واستقلال عن القرارالسياسي السوري. كما أن القضية الفلسطينية التي تاجر فيها خمسة وأربعون سنة عادت لأهلها وأضحى الشأن الفلسطيني شأناً فلسطينياً داخلياً محضاً بعد دخول العرابة مصر في مفاوضات حماس وإسرائيل ومطالبة الأسد بعدم التدخل في شؤونه. نرى ونشاهد تطورات العلاقات الأمريكية الإيرانية التي تقترب من فتح سفارة بين البلدين دون تقديم ولو أعتذار واحد من الحكومتين عن الكذب الذي سوقوه لنا على مدى ثلاثين سنة عن الدوافع وراء هذا التقارب, والعلاقاته السورية الإيرانية على المحك والابتعاد لدخولها بقوة في ميزان الحسابات الأقليمية والدولية, وها هو يعود إلى الداخل وهولا يملك شيئاً, لا يملك أي مصدرمن مصادر القوة التي كان يعتمد عليها ليمسك من خلالها زمام المبادرة والسيطرة المباشرة على الداخل. لم يبق له إلا الورقة الاخيرة, الورقة الإسرائيلية, مثل العطار العجوزالذي يجوب القرى والضيع على حمار عجوزومنهك ليسوق ما لم يعد يسوق, بضاعة بالية وبارة وقديمة وممزقة, يتاجربها ظاناً أن تجارته ما زالت صالحة في عصرمختلف تماماً, ليدخل مع إسرائيل في مفاوضات نشطة ومباشرة دون خجل أويقدم كشف الحساب عما فعله في الماضي وما سيفعله في المستقبل المنظور.
لقد ادرك حافظ أسد ذوالمنبت الدوني منذ مجيئه إلى السلطة أن مفتاح بقاءه في السلطة هو الخارج, لم يكن الشأن الداخلي في سلم أولوياته وفي حساباته السياسية, من حيث التنمية والبناء وتحقيق التوازن الاجتماعي في علاقة القوى في الداخل السوري. لهذا دخل لبنان, عهرفيه, مارس كل موبقات السلطة والعهرالسياسي من حيث المحسوبيات والشللية, والمواخير الخلفية وتنمية العلاقات المشبوهة بين الاطراف اللبنانية وضربها ببعضها ليصبح عراب العهرفيه وليتمكن من مسك لبنان كقبضة في يديه يحركها مع الأخرين للاستثمار السياسي الأني والقصير المدى وبما يحقق ذلك من مكاسب لنظامه. وفي احتوائه للورقة الفلسطينية لم تكن إلا استثماراً لمصلحة نظامه وبقاء عرش عائلته, عائلة الاسد. كلنا شهد كيف دخل في مفاوضات مع اسرائيل وابرم اتفاق معها في سبعينيات القرن الماضي من أجل التفرغ بعد ذلك لترتيب وضعه في السلطة لاطول فترة ممكنة والدخول مع الخارج في تناقضات ثانوية لا تمس جوهرالقضية, حتى صار واضحاً ومضحكاً ومقرفاً ويدعو للرثاء والحزن ما بين طرح ايديولوجي تعود شعارته القومية إلى أربعينيات القرن العشرين وممارسات فعل سياسي برغماتي على الأرض لا علاقة بتاتاً بين الأثنين. لقد مارس نظام الأسد وما يزال التفارق ما بين السياسي والايديولوجي الى الأن, يطرح ايديولوجية في طرف ويمارس السياسة والعهرفي طرف أخر.
لقد حول هذا النظام الارهابي القادم من القرون الوسطى, المركب من كوكتيل متعدد, عائلي وعشائري وطائفي ووراثي سوريا إلى سجن كبير. فهولم ولن يهتم بمصيربلادنا إلا بما تحقق له القبض على السلطة المنافع الشخصية والمكاسب الأنانية على حساب المجتمع ومستقبله. لقد سعى نظام حافظ الأسد منذ مجيئه إلى السلطة وعبر صيرورة نظامه في الحكم أن يكون متفارقاً عن المجتمع له كل الثروات والحقوق والامتيازات وللمجتمع القهر والقمع والتهميش
ما زالت بلادنا تدخل في عنق الزجاجة, مقفرة, هشة, يقبض عليها نظام فردي مستبد, معطل لحركة الواقع والتفاعل الاجتماعي بينما الحياة المعاصرة تحتاج إلى تقنية سياسية حديثة وتطورات مادية عميقة تحسن بناء ذاتنا وثقافتنا وهياكلنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية تسمح لنا بالتعامل مع العالم بأنفتاح وحيوية
إن إعلان دمشق هو نقلة حيوية مهمة جداً, قاعدة يمكن الإرساء عليها والبناء عليها وتطويرالمفاهيم والأفكاروالادوات والاطرالنظرية لبلادنا ومواصلة الحواروالنقاش بين القوى السياسية وتطويره بما يسمح بمشاركة المجتمع وما يحيط بنا في عالم ما بعد الحرب الباردة, ونقل التجديد من الفكر إلى الممارسة استعداداً للمستقبل والتحضيرله حتى لايداهمنا الخطرالغيرمحسوب عند انهيارهذا النظام أوتكنيسه. ليس لدينا إلا تطويرالحوار بيننا كقوى مختلفة من مختلف الاتجاهات سواء كانت قومية أوماركسية أودينية لأمتصاص الأزمة الحادة والعميقة التي تراكمت عبرعشرات السنين على يد نظام غارق في الظلامية والظلام ومحاولة تجنب السقوط في الصراعات البينية والاقتتال العبثي الذي لا ناقة لنا فيه ولا جمل, ومحاولة ارساء مفاهيم حضارية حول نقاط يمكن البناء عليها وتطويرها لوقف الخراب الذي مارسه النظام من حيث التفتيت وإعادة المجتمع إلى مربعات ماضوية كالعشائرية والطائفية وفضح هذا الوضع عبر وسائل متعددة, عبرالحواروالاعلام والوسائل التقنية الجديدة والمتنوعة لبناء مجتمع معاصر يساهم في تطوير نفسه وتطور العالم, يستفيد ويفيد, عبرنظام لكل المواطنين السوريين بلا استثناء.