سلام في قفص الاتهام
رزان زيتونة
كل الحق على العبَّارة وطيشها وجموحها. لو كانت أكثر حذرا وأقل تباهيا لما غرقت «كتايتانك» في نسخة بائسة وفقيرة ومعدمة، ولما رمت إلى قاع البحر حمولتها من البؤساء والفقراء والمعدمين.
كل الحق على العبَّارة، واسمها على غير مسمى. غرقى «السلام 98» منذ عامين، يعدون أكثر من ألف إنسان. بعملية حسابية بسيطة، حياة كل منهم تساوي أقل قليلا من عشرة جنيهات مصرية، هي محصلة تقسيم قيمة الغرامة المحكوم بها على المدان الوحيد من بين المتهمين جميعا، على عدد الضحايا. ولا نتحدث هنا عن التعويضات المدنية، بل عن المسؤولية الجزائية للمتهمين.
لا إهمال ولا إساءة استعمال ولا فساد ولا جريمة مقصودة أو غير مقصودة من قبل صاحب الشركة مالكة العبارة- عضو مجلس الشورى المصري وعضو الحزب الوطني الحاكم- أو الجهات الحكومية المسؤولة أو الوزير المعني. فقط ضمير كابتن عبَارة «سانت كاترين» التي مرت بالكارثة من دون اكتراث، وتجاهلت استغاثات الغرقى والمنكوبين، هو ما يحتاج إلى إيقاظ بغرامة مالية وبستة أشهر مع وقف التنفيذ. تلك هي عقوبة جرمه الذي «لا يأتي من بشر» وفقا لوصف المحكمة الجنحية- وليست الجنائية- مصدرة القرار.
هذا على الرغم من تقرير لمجلس الشعب المصري حمل فيه مسؤولية الكارثة لمالك العبارة المتنفذ وهيئة السلامة البحرية، وتقرير لمنظمة حقوقية مصرية تكشف فيه إهمالا واستهتارا واضحين من الطرفين المالك والمشرف.
صحيح هناك مراحل أخرى للتقاضي بعد طعن النائب العام بالحكم الذي وصفه «بالمخالف للثابت في الأوراق والمحتوي فسادا في الاستدلال وتعسفا في الاستنتاج». وربما تختلف النتيجة في مرحلة التقاضي القادمة، وتُبرّأ العبَارة من الجريمة ويدان من أهمل وتقاعس وارتكب. لكن تاريخ صدور هذا الحكم الأول في السابع والعشرين من يوليو 2008، سيبقى راسخا في الذاكرة ليُحكى عنه وعن ملابساته ومؤيديه والمعترضين عليه لفترة طويلة. اليوم الذي ثبت فيه بحكم قضائي سعر «الحياة» الواحدة عربيا، وفي موسم التخفيضات.
موسم هنيبعل ليبيا، الذي تأزمت علاقات بلده مع الدولة غير المحايدة سويسرا، لأنها انتقصت من قيمة أسلوبه اللبق والحميمي في الحياة! وموسم أرواح ضحايا دارفور التي ذبحت مرة ثانية رمزيا على مذبح الكرامة والسيادة العربيتين. موسم ضحايا سجن صيدنايا السوري، الذي وبعد مرور أكثر من عشرين يوما على وقوع أحداثه، لانزال نجهل عددهم وأسماءهم.
حالة الغضب الهيستيرية التي أصابت عائلات الضحايا عند النطق بالحكم، حملت أصوات احتجاج الغرقى وقلة حيلتهم في عالمهم الآخر. هم أكثر من تحسس على بحر الواقع، انعدام أطواق النجاة في تلاطم أمواج السلطة والفساد والبؤس. حتى القشة التي بقيت لأرواحهم تتعلق بها، قصمت باسم الشعب، بدلا من أن يعلن باسمه حدادا على أرواح ألف من أبنائه.
كانت دوما كذلك. الأرواح ذات القيمة الحقيقية عربيا، رسميا وخطابيا وإعلاميا وبتواطؤ شعبي في كثير من الأحيان، هي فقط أرواح شهداء «القضايا الكبيرة». وحدهم حياتهم مبجلة في موتهم، أو موتهم تكريم لحياتهم، أو حياتهم لا قيمة لها قبل موتهم، النظريات كلها تنطبق. ضحايا لقمة الخبز التي لم يجدوها في وطنهم، هم خارج السجلات الوطنية والقومية. ضحايا الاحتكار وتحالف النفوذ ورأس المال هم أعداد جرى التخفف منها في ظل ازدياد هائل في التعداد السكاني.
وعلى العبارة «سلام» خاض عرب من جنسيات مختلفة معركتهم التي لا يبجلها أحد. معركة خاسرة مهما اختلفت أرضها وجنسيتها وزمان حدوثها.
لكن لماذا يشعر المرء أن الأمور في تفاقم. وأن ما كان يجري بخجل وصمت ومداراة، أصبح في منزلة الطبيعي والمعلن عنه بغاية الاستهتار ومن دون أي أقنعة. وأن حتى محاولات التجميل والتحسين من مظاهر الاستخفاف بحياة البشر وازدرائها، جرى تركها وإهمالها. هي الثقة غير المحدودة بالنفس المالكة المتحكمة؟ أم الثقة غير المحدودة بعجز النفوس الممتهنة وقلة حيلتها؟!
طبعا هي العبّارة، بشحمها وهيكلها ومسؤوليتها الشخصية، تتحمل وزر ماحدث. الكلمة الأولى والأخيرة للقضاء، والحكم عنوان الحقيقة كما قال فريق الدفاع عن المتهمين المبرئين. لا يمكن لأحد أن يشكك بعدالة ونزاهة قضاء دولة عربية. القضاء نفسه الذي يأخذ على عاتقه ليل نهار حمايتنا ممن يستهدفون شعورنا القومي ووحدتنا الوطنية وهيبة دولنا وأهداف ثوراتنا.
* كاتبة سورية