قرار المحكمة الدستورية التركية: لكي لا تجفّ بحيرة الديمقراطية
صبحي حديدي
في عام 1950 قام مؤرّخ بريطاني شابّ، في الرابعة والثلاثين من عمره، بزيارة تركيا للمرّة الأولي في حياته، بعد أن حصل علي إذن بالدخول إلي الأرشيف العثماني الإمبريالي، وكان بذلك أوّل غربي ينال تلك الحظوة الإستثنائية التي جعلته مثل طفل طليق السراح في مخزن ألعاب، أو في مغارة علي بابا . ذلك المؤرّخ كان برنارد لويس، الذي سيصبح فيما بعد مرجع الحكمة الأوّل في دوائر القرار الأنغلو ـ أمريكية في كلّ ما يخصّ شؤون الإسلام السياسي، وستتراوح ألقابه بين بطريرك الإستشراق كما يصفه نقّاد مناهجه، و عميد دراسات الشرق الأوسط كما تمتدحه صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية. وهو، للإيضاح المفيد ربما، صاحب التعبير الشهير صدام الحضارات ، الذي يُنسب عادة إلي صموئيل هنتنغتون، رغم أنّ الأخير أقرّ بأنه استعار التعبير من لويس (في مقالته الشهيرة جذور السخط الإسلامي ، 1990).
لكنّ مايكل هيرش، أحد كبار محرّري أسبوعية نيوزويك الأمريكية، وصاحب الكتاب الهامّ حرب مع أنفسنا: لماذا تضيّع أمريكا فرصة بناء عالم أفضل ، لا يتردد في القول إنّ سوء قراءة أمريكا للعالم العربي، بل مغامرتنا الفاشلة في العراق اليوم، قد تكون بدأت بالفعل في سنة 1950 ، حين زار لويس تركيا! ذلك لأنّ لويس تغنّي بإنجازات مصطفي كمال أتاتورك، في استيلائه علي السلطة، وتقويض السلطنة، وفرض نظام علماني بيوريتاني ( رغماً عن الشعب، ولكن من أجل الشعب حسب عبارته الشهيرة)، يقوم علي إلغاء الخلافة، ومنع الحجاب والطربوش، وتخليص اللغة التركية من معجمها العربي لصالح الحرف اللاتيني… والحال أنّ ذلك التغنّي كان بمثابة وصفة جامعة مانعة للقوي الكبري في الغرب، ثمّ في الولايات المتحدة لاحقاً: الكمالية، أو نظام الحكم الأتاتوركي، هي الصيغة الوحيدة التي يمكن من خلالها تطبيق الديمقراطية في البلدان المسلمة، وبذلك فإنّ تركيا هي الديمقراطية الوحيدة في العالم المسلم (سوف تكون هذه المسلّمة موضوع كتاب مستقلّ تحت عنوان نهوض تركيا الحديثة ، نشره لويس سنة 1961).
وحتي ساعة كتابة هذه السطور، لم يكن لويس قد أبدي أيّ رأي في مداولات المحكمة الدستورية حول حظر حزب العدالة والتنمية الحاكم، رغم أنّ المعركة القانونية بدأت منذ أسابيع، كما لم يصدر عنه أيّ تعليق حول قرار المحكمة الأخير، الذي قضي بردّ دعوي المدّعي العام التركي، ورفض حلّ الحزب. ألم تكن هذه الديمقراطية التركية عزيزة لويس علي الدوام، ليس فقط لأنها علمانية في محيط شرس من الفقه (الإسلامي) اللاعلماني واللاديمقراطي في الجوهر، حسب يقين لويس، بل أساساً لأنها المثال الوحيد الذي نجح في أيّ مكان من هذا العالم الشاسع الواسع المترامي الأطراف، الذي تندرج أقوامه وإثنياته وعقائده وجغرافياته في تسمية واحدة شاملة فضفاضة هي دار الاسلام ؟
ليس هذا هو الصمت الأوّل للرجل إزاء قرارات كهذه، في الواقع، إذْ امتنع عن الخوض في قرار المحكمة الدستورية التركية ذاتها، الذي قضي أواخر العام 1997 بحلّ حزب الرفاه ، ومصادرة ممتلكاته، وحظر العمل السياسي علي خمسة من كبار قادته، كانوا نوّاباً منتخبين شرعاً، وكان بينهم رئيس الحزب ورئيس وزراء تركيا الأسبق نجم الدين أربكان. آنذاك كان جيمس روبن، الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية، أكثر إفصاحاً من لويس حين اعتبر أنّ الولايات المتحدة لا تدعم ولا تناهض أياً من الأحزاب السياسية التركية، ولكن الإدارة لا تخفي قناعتها بأن حظر العمل السياسي لأيّ حزب يضعف الثقة في الديمقراطية التركية، لأنه يمسّ في الجوهر مبدأ تعدد الأحزاب.
واليوم بدا أولي رين، المفوّض الأوروبي لشؤون توسيع الإتحاد، أكثر حرصاً علي الديمقراطية التركية من لويس نفسه، حين اعتبر أنّ احتمال حظر حزب العدالة والتنمية بقرار من المحكمة الدستورية لا يحترم المباديء الديمقراطية التي يجب أن تلتزم بها تركيا إذا شاءت الإنضمام إلي الإتحاد. وأضاف، لكي يكون الموقف أوضح: في أية ديمقراطية أوروبية عادية تُناقش القضايا السياسية في البرلمان، وفي صناديق الإقتراع تجري صناعة القرارات، وليس في قاعات المحاكم . ولم يكن غريباً، استطراداً، أن يعرب الإتحاد عن ارتياحه لقرار المحكمة الدستورية الذي ردّ دعوي الحظر.
ومع ذلك فإنّ الحدّ الأدني من الواجب يفرض علي لويس أن يكسر صمته، هو الذي بشّر طويلاً، واستبشر مراراً، بالتجربة التركية في الديمقراطية التعددية والعلمانية السياسية والدستورية، وأنها في تعبيره: لم تكن من صنع الحكام الإمبرياليين، ولم تفرضها القوي الغازية الظافرة. لقد كانت خياراً حرّاً مارسه الأتراك حين انتهجوا طريق الديمقراطية الطويل والشاقّ والمزروع بالعقبات، ولكنهم برهنوا أنّ حسن النية والتصميم والشجاعة والصبر كفيلة بتذليل تلك العقبات والتقدّم علي طريق الحرية . غير أنّ ما مضي من عقود خمسة ونيف، أعقبت زيارة لويس الأولي إلي الأرشيف العثماني، برهنت أنّ هذه الديمقراطية ترنحت مراراً تحت الضربات المتلاحقة التي لم يتردد جنرالات الجيش في تسديدها إلي قلب التجربة.
وكان هذا يحدث كلما ارتأي مجلس الأمن القومي، بوصفه الحارس الساهر علي العلمانية، ممارسة ذلك الحقّ المقدّس الذي منحه لذاته بموجب النظام الكمالي، أي سلطة الإجتهاد العلماني (إذْ للأصولية العلمانية اجتهاداتها في أحكام فقهها!)، وتحويل محتوي الإجتهاد إلي قرارات ملزِمة للمجتمع. ويستوي هنا أن يلجأ الجيش إلي القانون (المحكمة الدستورية وحلّ الأحزاب: أكثر من عشرين حزباً سياسياً حظرتها المحكمة أو قضت بحلّها تذرّعاً بممارستها أنشطة إسلامية أو كردية انفصالية)، أو إلي حبل المشنقة (كما في مثال عدنان مندريس)، أو الإنقلاب العسكري بوصفه ذروة العلاج بالكيّ.
كذلك شهد العالم مهازل القضاء التركي ضدّ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولم يكن النوّاب الأكراد (العلمانيون تماماً، الماركسيون أو اليساريون أو الليبراليون) هم وحدهم ضحايا تلك العربدة الدستورية، ولم يكن أربكان هو الوحيد الذي طُرد من باب السياسة ليعود ثانية من نافذتها. والسجلّ طريف، علي قدر مرارته أحياناً: حزب الرفاه ، الذي لجأت المحكمة الدستورية إلي حلّه أواخر 1997، هو الحزب الثالث الذي أسّسه أربكان خلال نحو ربع قرن، بعد حزب النظام الوطني الأوّل سنة 1970، والذي تعرّض للحلّ علي يد الطغمة العسكرية التي قادت انقلاب عام1971؛ وحزب الإتقاذ الثاني، وتأسس بعد وقت قصير من انسحاب العسكر إلي الثكنات، لكي يحلّ مرة ثانية إثر الإنقلاب العسكري لعام 1980!
هذه الوقائع جميعها لم تمنع برنارد لويس من الإمعان، أكثر فأكثر، في التغنّي بالديمقراطية التركية، وكأننا أمام القشة الوحيدة المتاحة أمام الغريق المسلم قبل أن تبتلعه لجّة ظلمات الإستبداد الشرقي. وفي واقع الأمر كان خطاب لويس يقول ما معناه: حسناً… ثمة جنرالات، وانقلابات عسكرية، وأحكام عرفية، ومصادرة حريات، وحظر أحزاب. ولكن… لا بدّ من قبول هذا كله في سبيل صيانة التجربة الوحيدة، ولا مناص من ابتلاع التجربة علي علاتها ، بل وامتداحها بعيوبها الفاضحة هذه! وحين يمعن لويس في الصمت إزاء قرارات حلّ الأحزاب، إسلامية كانت أم كردية، فهو موضوعياً أشبه بمَنْ يصادق علي قرارات المحكمة الدستورية، وعلي حيثيات القرار في الشكل والمحتوي: إذا حظرت فهو ساكت، وإذا ردّت الحظر فهو صامت!
أليس مدهشاً أن يوافق المستشرق، وهو المؤرّخ وعالم الإجتماع وباب حكمة الشرق الأوسط المعاصر، علي شرعية حلّ حزب سياسي ـ حاكم، ويتمتع بشعبية واسعة، ورصيده في الحكم جيّد إقتصادياً ـ استناداً إلي حيثيات لا تصمد أمام المحكّ القانوني السليم، من نوع تعريض العلمانية الأتاتوركية للخطر، أو الإرتياب في تشجيع ارتداء غطاء الرأس (وليس الحجاب تماماً)، أو التغاضي عن عمل المحجبات في دوائر الدولة؟ أليس مدهشاً أن يوافق أيّ ديمقراطي غربي، حتي حين يكون جاهلاً تماماً بألغاز الشرق الأوسط وأسرار دار الإسلام ، علي هذا النوع من الحيثيات حين يكون الحزب المعني بقرار الحلّ هو أكبر الأحزاب التركية، الحاصل علي أعلي نسبة في آخر انتخابات ديمقراطية، والذي يدير أعضاؤه عشرات المجالس البلدية في طول البلاد وعرضها، وبينها العاصمة أنقرة والعاصمة التاريخية اسطنبول؟
ألا يدرك لويس أنّ المسار، السياسي والإجتماعي والعقائدي، الذي قاد هذا الحزب (ومن قبله الرفاه ، علي قدم المساواة)، ليس مساراً أحادي الجانب، قابلاً للتأويل البسيط أو التبسيطي، بل هو سيرورة معقدة تتصل بالمجتمع المدني والاجتماع السياسي، قبل التوتر بين العلمانية و الأصولية ؟ ألا يكفي أن يقرأ المرء نتائج حزب أتاتورك (محتكر تمثيل العلمانية الذي يحلّ في الأقسام السفلي من اللائحة الإنتخابية) لكي يدرك زيف حكاية التوتر هذه، مقابل حكايات أخري أكثر عمقاً؟ وكيف لا يكون لويس هو الأعلي كعباً، في طول استشراق الغرب وعرضه، علي تقدير الموقع الفعلي للتيارات الإسلامية في تركيا، وكيف أنها تعاني من صعوبات أخري ليست علي رأسها حكاية الهوية العثمانية ـ الإسلامية أو تلك الأوروبية ـ العلمانية؟
والمرء لا يحتاج إلا إلي مراجعة متواضعة لتاريخ الإسلام التركي لكي يدرك تعقيد المشهد، وتباين التيارات، وافتراق الإجتهادات. وإذا كان المسلمون يشكلون نسبة 95% من مجموع السكان، فإنّ هؤلاء يتوزعون علي تيارات صوفية نقشبندية وسليمانية، وأخري بكتاشية ومولوية، وثالثة علوية؛ كما أنّ الفئة التيجانية هي الوحيدة التي تتصف بمسحة تشدد في فهم العقيدة الإسلامية، ومجموعة حزب الله هي وحدها الجديرة بصفة التطرف (وهي، في كلّ حال، مغمورة وتمارس السياسة وفق أسلوب بدائي واحد مثاله الشهير حادثة إحراق الفندق الذي كان ينزل فيه الكاتب المعروف عزيز نسين).
وأخيراً، ألا يُفترَض أنّ لويس خير من يعرف كيمياء العلاقة التاريخية بين العسكر والديمقراطية، وأنّ التوتر المفتعَل حول العلمانية وغطاء الرأس والمدارس الإسلامية، ليس سوي صفحة التسعينيات من تراث طويل انطوي علي ثلاثة انقلابات عسكرية، أعقبتها في كل مرّة تعديلات دستورية كانت تقوّي حجم وطبيعة التدخل العسكري في الحياة السياسية المدنية؟ ألا تتجلي ذروة المفارقة في حقيقة أنّ حرص الجنرالات علي اجتثاث التقاليد العثمانية من جذورها ينطوي، في الآن ذاته، علي إحياء واحد من أسوأ تلك التقاليد: العقلية الإنكشارية في التجنيد الإجباري وترقية الضباط وتشكيل مجلس الأمن القومي؟
وللروائي التركي ـ الكردي ياشار كمال، ضمير فقراء تركيا وأحرارها علي حدّ سواء، هذا القول البليغ عن الكمالية: منذ 28 تشرين الأوّل/أكتوبر سنة 1923، أيّ منذ اليوم الأوّل لتأسيسها وحتي الآن، تحوّلت الجمهورية التركية إلي نظام لا يُطاق من القمع والقسوة، وتمكنّت من تمويه هذه الصورة عن طريق شتّي أشكال الخداع (…) وليس مبالغة أنّ الأتراك في مناطق عديدة يتمنون ألف مرّة عودة الأوتوقراطية العثمانية . وفي مثال قمع الأكراد تحديداً، يقتبس كمال استعارة رهيبة اعتمدها الجنرالات أنفسهم: لكي تتمكّن من صيد كلّ السمك، ينبغي أن تجفّف البحيرة تماماً!
والمرء يبتهج إزاء قرار المحكمة الدستورية الأخير، ليس تعاطفاً مع حزب العدالة والتنمية أو أيّ حزب سواه، بل لكي تبقي المياه عذبة فيّاضة في بحيرة الديمقراطية التركية.
ہ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
حاص – صفحات سورية –