قليل من السياسة، كثير من المشاعر
ياسين الحاج صالح
يحصل كثيرا في الشهور الأخيرة أن يؤخذ على المعارضة الداخلية في سورية أنها تأخذ موقفا كيديا أو حاقدا من النظام. ويستغني «معارضو المعارضة» هؤلاء بإثارة النفور الطبيعي من هذه الدوافع عن تفسيرها. وفي حدود متابعة كاتب هذه السطور فإن أحدا من نقاد كيدية المعارضين وحقدهم لم ينسب الصفتين هاتين إلى النظام ذاته، رغم أن سلوكه طوال عقود ثلاثة حتى يومنا اتسم بحقد وكيدية لا جدال فيهما حيال معارضيه، ورغم أنه يشغل موقع الدولة، الجهة العامة التي يقتضي تعريفها بالذات استبعاد المشاعر والعواطف من سياستها حيال مواطنيها المفترضين.
حيال هذه الممارسة المنافقة العريقة كان كاتب لامع ومعتقل سابق لأزيد من 15 عاما عنون مقالة له قبل 5 سنوات بعبارة دالة: «نعم، أنا حاقد». والحال، من المتعذر أن يبرأ سلوك معارضين سوريين من عناصر عاطفية بعد كل ما تعرضوا له، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بخاصة. الحقد هو الثمن المرجح للصمود في السجن والبقاء على قيد السياسة. وقد يكون التثبت على مسألة السلطة الذي وسم سياسة المعارضين السوريين في السنوات الماضية وثيق الصلة بسيكولوجية المعتقل السياسي السابق، الذي لم يعد يستطيع أن يرى غير «النظام» أو «السلطة». يحصل أن يفلت بعضنا من هذا «القانون الحديدي»، إلا أن السبب الأرجح لذلك مؤثرات انفعالية أخرى تتصل ببنى الشعور السياسي، أحقاد ونزعات انتقامية من صنف آخر.
سأقتصر على وقائع بسيطة من سياسة الكيد الرسمية. إن التعذيب اليومي العشوائي استمر في سجن تدمر حتى عام 1998، أي بعد أن كان انقضى على مقام أكثر المعتقلين فيه أزيد من 15 و18 عاما. وإن معارضين سلميين قضوا أكثر من عشر سنوات دون تهم ودون محاكمة (أحد عشر عاما وأربعة أشهر انقضت قبل أن يوجه لكاتب هذه السطور اتهام ويحال إلى محكمة استثنائية)، ولم يكن ثمة ما يضمن أن من ينال حكما سيفرج عنه عند انقضائه، أو أن يفرج عنه دون «مساومة» مهينة، تجبره على «الانسحاب» من التنظيم الذي ينتمي إليه، و/ أو تلزمه «التعاون» مع أجهزة الأمن. واليوم بالذات يودع السجناء السياسيون في مهاجع مع مجرمين عاديين، ويحصل أن يستخدم بعض هؤلاء شهودا عليهم في تهم جديدة، توجه إليهم وهم في السجن! وقبل أيام فقط أجبر معتقل شاب على «الانسحاب» من «إعلان دمشق»، وجرى تصويره في الأثناء، ثم سرّب الخبر فورا لمواقع إلكترونية مقربة من النظام (فوتت على نفسها شرف تعزيز سبقها الصحافي بالصور!). لا شيء من ذلك دليل على تسام أخلاقي، ولا على التجرد والحياد الوجداني المفترض من «الدولة».
على أن هذا كله لا يسوغ أن يندفع معارضون وراء ما قد يسمى «سياسة المشاعر». فمقابل ضعفها السياسي المحتوم، المعارضة مطالبة بأن تحوز تفوقا أخلاقيا، فلا تجعل من النظام قدوة لها في تفكيرها وعملها. ثم إن انسياقها المحتمل وراء منطق القصاص يحفز نزعات انتقامية مدمرة، ليست واهنة أصلا عند النظام. هذا فوق أنه ينذر بمستقبل يكرر الحاضر يحل فيه حاقدون محل حاقدين. ما يمكن أن يكون حليفا لمستقبل مختلف هو كسر دائرة رد الفعل ومنطق القصاص والانتقام. وهو ما كانت المعارضة ذاتها أدركته وصاغت حوله دعوتها إلى «المصالحة الوطنية» بين عامي 2001 و2005؛ دون جدوى.
ليس من أغراض هذه المقالة استبعاد دوافع كيدية محتملة عن سلوك وتفكير المعارضين، بل بالأحرى وضع النقد المشروع لهذه الدوافع المحتملة في سياق اعتراض على سياسة المشاعر من جهة، والعمل على تطوير سياسات عامة عقلانية، مترفعة عن الأهواء والأحقاد من جهة أخرى. فهذا وحده ما ينزع صفة كيدية محتملة عن نقد كيدية المعارضة، كما عن تبرير كيدية الطرف الأقوى. بلى، الكيدية تلحق بالعمل العام أضرارا فادحة، لكن نقد الكيدية عند طرف والسكوت عنها عند الطرف الذي يجمع بين كونه الأقوى وشاغل الموقع العام أبلغ ضررا.
ولعل مما يسهل الانزلاق نحو سياسة المشاعر تراجع دور الإيديولوجيات التي وجهت تفكير ونشاط المعارضين السوريين، أعني الشيوعية والقومية العربية، فغدا نشاطهم انعكاسا يكاد يكون مباشرا لمشاعرهم وتجاربهم الأليمة أو الأشد إيلاما. يعزز من ذلك أيضا القصور المؤسسي على مستوى السلطة العمومية، وعلى مستوى تنظيمات المعارضة أيضا. وهو ما يقترن كذلك بشخصنة السلطة، وبالحضور المكثف للحيثيات الشخصية (أي أصول الأشخاص وفصولهم، من هم وممن هم) على مستوى النظام وعلى مستوى المعارضة أيضا.
ولما كان القصور المؤسسي والضعف الفكري شاملا نصادف ظواهر سياسة المشاعر حيثما توجهنا، أولا عند النظام حيال أية معارضة له جدية، ثانيا عند المعارضة حيال النظام، ثالثا عند معارضين حيال معارضين آخرين. وعلى هذا المستوى الأخير، ثمة «سير» تكاد تصمد للمقارنة مع حرب داحس والغبراء.
الأسوأ في سياسة المشاعر أنها تشد أنظار الجميع إلى الوراء، إلى ما في أرواحهم من ندوب وما يكنون من ضغائن، وإلى نزعات الثار والانتقام. وهو لا يقوض عقلانية السياسة فقط، بل إنه يصوغ الدولة والمنظمات السياسية حول هذه الدوافع الثأرية، فتمسي أقرب ما تكون إلى روابط عضوية كالعشائر والطوائف وما إليها. الثأر يصنع القبائل الموتورة التي تطلبه والحقد يصنع الطوائف المتناحرة. والمنظمة السياسة الحديثة، والدولة بالذات، تنكص إلى قبيلة أو طائفة بقدر ما يكون الثأر والانتقام مبدأ التئامها أو محركا أساسيا لعملها. وفي مثل هذه الحال يمسي المستقبل والعقلانية في خبر كان.
يبقى أن في سياسة المشاعر كثيرا من المشاعر وقليلا من السياسة. فأول السياسة ضبط النفس والتغلب على الهوى و… سوس المشاعر.
خاص – صفحات سورية –