جورج كتن

التورط والتوريط أم السياسة الواقعية

 

جورج كتن

خاص – صفحات سورية –

2006 / 8 / 7

في جميع حروب المنطقة, لم يكن للمواطنين أي دور في قرار الحرب أو السلم المتروك عادة لأنظمة متفردة لا تجد ضرورة لاستطلاع رأي متلقي النتائج المأساوية لحروبها, فالمطلوب من الرعية الحماس العاطفي للحرب أمام شاشات الفضائيات الصادحة “بالانتصارات” وقبول التضحية من أجل “القضية” والاستهانة بالخراب والكوارث مقابل “منجزات” الأنظمة الصامدة.

لم يكن قرار الأنظمة هو الحاسم دائماً في اختيار الذهاب للحرب, فقد فرض عليها العدو حروباً دفاعية, أو أنها تورطت في حروب لا تريدها كما حصل لمصر عام 1967 عندما أغلقت مضائق تيران, بعد أن تعرضت لحملات عربية تخوينية مزاودة لسماحها بفتح خليج العقبة أمام السفن الإسرائيلية, بالإضافة لمنظمات فلسطينية قامت بعمليات مسلحة ضد إسرائيل بدءاً من العام 1965, متبنية لاستراتيجية توريط الأنظمة العربية في الحرب.

وسبق أن تورطت مصر بذرائع أيديولوجية قومية في حرب اليمن بين الجمهوريين والملكيين التي هدرت الإمكانيات المصرية المحدودة, كما تحدث كثيرون عن توريط السفيرة الأميركية في بغداد لصدام حسين في حرب الكويت الكارثية, وما كان ذلك ليحدث لولا أوهام القوة الإمبراطورية التي تملكته

مناسبة الحديث عن سياسة “التورط” هو الإمكانية الراهنة لتوريط سوريا في الحرب اللبنانية, فأولى خيارات النظام السوري النشاط السياسي والدبلوماسي الهادف لإيقاف فوري لإطلاق النار للحد من الخسائر الكبيرة البشرية والمادية وللوصول لحلول شاملة للصراع في المنطقة حسب قرارات 242 و 338 وفق مبدأ استعادة الأرض مقابل السلام والأمن للجميع, وهو موقف منسجم مع السياسة السورية منذ بداية التسعينيات المتوجهة للمشاركة في العملية السلمية.

يمكن لسوريا أن تلعب دوراً هاماً في “التأثير” على الأطراف الحليفة المشاركة مباشرة أو بشكل غير مباشر في الحرب, لقبول حل نهائي ودائم في لبنان يضع حداً للتجاوزات على الحدود من الطرفين ويحل المشكلات العالقة: الأسرى ومزارع شبعا وحصر السيادة على الأرض والسلاح وقرار الحرب والسلم, في أيدي الحكومة اللبنانية المنتخبة القابلة للتداول.

في هذه الحالة فإن التجربة السورية الطويلة التي رست على سياسة عنوانها “السلام كخيار استراتيجي”, يمكن أن تكون مادة غنية لإعطاء الدروس للتيارات الإسلامية المتحالفة معها, حماس وحزب الله والجمهورية الإسلامية, التي صحت على الصراع في بداية الثمانينيات فلم تهتم بالاستفادة من عبر التجارب السابقة، وفضلت العودة للمربع الأول الذي بدأت منه التيارات القومية واليسارية: إزالة إسرائيل من الوجود وإعادة اليهود إلى البلدان التي أتوا منها! كخطة تتمسك بها القيادات المحافظة الإيرانية والمنظمات المسلحة الإسلامية, رغم أن الوقائع أثبتت أنها غارقة في الأوهام.

أما خيار دخول سوريا الحرب الدائرة بإرادتها ففضلاً عن تناقضه مع دورها في عقلنة حلفائها الراديكاليين, هو تورط وانجرار وراء ما يعدونه من حروب لن تكون نتائجها أفضل من سابقاتها, وخيار متهور لا نتوقع الانحدار إليه بسهولة, لكنه ليس مستحيل الحدوث نتيجة ضغوط على سوريا من جهات عديدة, منها ذوي الرؤوس الحامية الآملين في أن تخفف سوريا بدخولها الحرب من التركيز على حزب الله, مع تجاهل أن ذلك تعميم لكارثة الخراب في البلدين بدل حصرها في بلد واحد ووقفها فيه.

بالإضافة لضغوط بتأثير دعاية “انتصار” حزب الله منذ المعارك الأولى للحرب, الذي أعلنه كثيرون قبل أوانه دون انتظار نتائج الحرب النهائية والحلول السياسية التي ستولدها. فإذا كان الانتصار حقيقياً فلماذا دعوة سوريا للحرب طالما أن حزب الله يبلي بلاءاً حسناً؟. نعترف بأن حزب الله تصدى بشكل أفضل من حروب سابقة للهجوم الإسرائيلي, لكن هل هذا وحده يشكل انتصاراً؟ في الخطاب السائد لأنظمة عربية ومنظمات مسلحة, فإن البقاء في الحكم أو استمرار “المقاومة” يعتبر انتصاراً, رغم الدمار الواسع للبنى التحتية والمنشآت وآلاف القتلى والجرحى. إن عشرات الانتصارات من هذا النوع لا تشكل انتصاراً حقيقياً.

آخر الانتصارات التي اعتبرها المقاومون مثالاً للاحتذاء هو الانسحاب الأحادي للجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان, الذي لم يتم فقط بسبب مقاومة حزب الله للاحتلال وحراك المجتمع الإسرائيلي المعارض للبقاء, بل أيضاً لأنه ليس لإسرائيل نوايا توسعية في لبنان ففضلت تطبيق القرار 425 والانسحاب للحدود الدولية التي خططتها الأمم المتحدة على أمل التقيد بعدم تجاوزها, مما يضمن أمن شمال إسرائيل.

بناءً على هذا “الانتصار” للمقاومة في العام 2000 انطلقت انتفاضة فلسطينية كرد على العراقيل الموضوعة أمام العملية السلمية التفاوضية, سرعان ما عسكرتها المنظمات الإسلامية الجهادية امتثالاً بالانتصار اللبناني، وأتى الانسحاب الأحادي من غزة ليتم الإعلان عن “الانتصار” الفلسطيني, رغم أن غزة لم تكن يوماً على قائمة التوسع الإسرائيلي, والانسحاب قابل للعودة عنه في حالة استمرار العمليات انطلاقاً من القطاع, وهو ما حدث مؤخراً في غزة وجنوب لبنان.

الانسحاب الأحادي في الحالتين ليس نصراً للمقاومة بل حالة مؤقتة من الفصل بين قوات الجانبين يمكن نقضها ما لم تدعم باتفاق سلام نهائي يتضمن حلاً لجميع القضايا العالقة, وهو ما حدث في اتفاقيات السلام المعقودة بين مصر وإسرائيل, التي وفرت حدوداً هادئة للجانبين لم تعكرها أية انتهاكات أو اجتياحات منذ ربع قرن.. وهي ما يجب التمثل به, وهي الفرصة التي أضاعتها سوريا عندما دعاها السادات للمشاركة في المفاوضات, فتغلبت عندها الأيديولوجيا على الواقعية والعقلانية.

للتشبه بالمقاومات اندفع البعض للدعوة لإطلاق مقاومة في الجولان السوري, إذ صدرت بيانات تدعو لفتح جبهة مقاومة رابعة بالاعتماد على “الانتصارات” التي حققتها الجبهات الثلاث في لبنان وفلسطين والعراق، بحجة أن من يدعم المقاومات الثلاث ويعتبرها الأسلوب الأمثل لمواجهة الاحتلال, يجب أن ينهي إغلاق الجبهة الرابعة.

كما قامت أوساط حزبية ودينية بالدفع باتجاه فتح جبهة الجولان لتخفيف الضغط عن لبنان, وتحمس البعض لتشبيه المقاومة “بعين تقاوم المخرز!”, بالإضافة لمعارضين دعوا الجيش للقيام باسترداد أرضه ونصرة أشقائه…, إلى أن انعقد مؤتمر تأسيسي “لهيئة شعبية لتحرير الجولان”, حضرها قياديون من الحزب الحاكم ورجال دين وبرلمانيين وبعض المعارضين ومئات من أهالي الجولان, لطرح استراتيجية “حرب تحرير شعبية طويلة”, مع تأكيد أن ما يجري يحظى بموافقة القيادة الرسمية.

إذا كان هذا التوجه جدياً وليس حملة إعلامية للتأثير في الحرب الدائرة, أو ضغوط للعودة لطاولة المفاوضات, فإن ذلك يعني توريطاً لسوريا في حرب قبل استنفاذ فعلي لجميع الطرق السلمية لاستعادة الأراضي المحتلة, فميزان القوى لم يشهد أي تحسن منذ هزيمة حزيران بل توسع الاختلال لغير صالحنا, في وقت أصبحت فيه القوى الحليفة الإقليمية والدولية بخبر كان..

أما الترويج لموت عملية السلام وأن مجلس الأمن أداة في يد أميركا وإسرائيل, وتعبير قوى فاعلة عن عدم إعارتها اهتماماً “لما يسمى” بالمجتمع الدولي!, وأن استعمال القوة هو الخيار الوحيد المتبقي..فهي مبالغات كلامية لا تصمد أمام الوقائع الحية, وتقود إذا تم الأخذ بها جدياً لمواقف انتحارية ولتورط في حرب كارثية.

إذا كانت إسرائيل فعلاً غير راغبة في مواجهة مع سوريا, فلماذا تصعيد التوتر معها وإعطائها الذرائع لتشن الحرب على سوريا؟

وإذا كان صحيحاً ما أوردته صحيفة المحرر نقلاً عن الرئيس السوري حول “أن الجولان متفق على تركه للمفاوضات الثنائية بوصفه جزءاً من عملية السلام, وأن فتح جبهة الجولان الآن يخدم العدو ولا يخدم المقاومة..” فهو عين الصواب.

إن عدم التورط في حرب مغامرة والاستعداد للرد الدفاعي في وجه عدوان إسرائيلي محتمل, وإلغاء جميع العوائق أمام حرية المبادرة السياسية الشعبية, هو الخيار الأفضل لسوريا إلى جانب أولوية استعمال جميع وسائل التأثير على القوى المتشددة للقبول بحلول واقعية توقف الحرب الدائرة.

خيار السلام لا يزال الخيار العقلاني الوحيد رغم العواطف المتأججة والأصوات الزاعق

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى