العرب والاتحاد المتوسطي: أية فرص.. أية تحديات؟
د.محمد السعيد إدريس
هواجس كثيرة فرضت نفسها، ومازالت، حول قبول هذا العدد الكبير من الدول العربية المشاركة في تأسيس مشروع «الاتحاد من أجل المتوسط» أو بالأحرى مشروع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للشراكة المتوسطية.
لم تكن الهواجس تتعلق بـ«المشاركة» من عدمها، بل في دخول هذا العدد من الدول العربية إلى هذه الشراكة كمجرد «دول» تحمل صفة «الهوية العربية» وليس كنظام إقليمي أو كمنظمة إقليمية على نحو مشاركة الاتحاد الأوروبي، الذي دخل هذه الشراكة باعتباره «الاتحاد الأوروبي».
تفخيخ النظام العربي بعد الجغرافيا
تدافُع المشاريع الغربية على العرب ونظامهم القومي أو «الإقليمي» العربي ابتداءً من مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرح انطلاقاً من فكرة إعادة رسم الخرائط السياسية العربية وبدأ انطلاقته بالغزو الأميركي-البريطاني للعراق واحتلاله وفرض منظومة محاصصة سياسية (شيعة-سنة-كرد) لإدارته توطئة لرغبة تقسيمه وتفتيته، إلى مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في أوج الحرب الإسرائيلية على لبنان (صيف 2006) وارتكز على دعوتين، الأولى تؤسس لاستقطاب إقليمي من شأنه تفجير النظام العربي ووحدته وتماسكه بين محورين أحدهما «محور الاعتدال» ويضم دول «مجموعة 6 + 2 + 1» أي مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن مع الولايات المتحدة، والآخر «محور الشر» ويضم إيران وسورية ومنظمات المقاومة العربية (خاصة «حزب الله» في لبنان وحركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في فلسطين)، والآن جاء دور «الاتحاد من أجل المتوسط».
هذا التدافع للمشاريع الغربية بعناوينه وأهدافه المختلفة، سواء اتفقنا أو اختلفنا حولها، يكشف عن مجموعة من الحقائق المهمة: أولها، أن الدول الغربية (الأميركية والأوروبية) تدرك جيداً أن لها مصالح حيوية وليس فقط استراتيجية في الوطن العربي. وثانيها، أن هذه الدول الغربية تدرك أيضاً الحقيقة الثابتة منذ عقود طويلة التي أدركها الغرب وهي أن إدارة المصالح الغربية في الوطن العربي لا تتحقق بالكفاءة المطلوبة ضمن إطار وحدة العالم العربي، وأن التقسيم والتجزئة والتفريق هي أدوات أساسية لتحقيق إدارة ناجحة للمصالح الغربية في الوطن العربي. سياسة «فرق تسد» البريطانية القديمة التي اتبعها الاستعمار البريطاني ومعه الاستعمار الفرنسي تجد مصداقيتها الآن مجدداً. فترسيم الحدود العربية من جانب البريطانيين والفرنسيين لم يكن عشوائياً بل كان مدروساً ومتعمداً لتحقيق أهداف كثيرة من أهمها ضمان استمرار صراعات الحدود بين الدول العربية لتأمين حالة انقسام طويلة المدى بين هذه الدول تحول دون وحدتها، والآن وكما كشف الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان في إحدى مقالاته بصحيفة «نيويورك تايمز» لم يعد التقسيم السابق للحدود العربية مقبولاً وبات من الضروري فرض تقسيم جديد يحقق الاستقرار من المنظور الأميركي.
تفعيل جغرافيا فرق تسد
فكرة فريدمان تقول إن من رسموا حدود العرب في الماضي من فرنسيين وبريطانيين لم يراعوا مصالح دول المنطقة بقدر ما راعوا مصالحهم هم، وإن ذلك التقسيم حمل في ثناياه بذور الفتنة والصراع الداخلي بين عرقيات وطائفيات ومذاهب وأديان مختلفة، هذا الصراع هو المسؤول الأول، من وجهة نظره، عن حالة عدم الاستقرار والإرهاب وغياب الديمقراطية، وإن الصراع وعدم الاستقرار ليس سببه إسرائيل بل سياسة عربية داخلية، وأن الصراع مع إسرائيل بريء من تهمة إشاعة حالة عدم الاستقرار وانتشار موجة الإرهاب، لأن المسؤول الأول هو «الدولة العربية الفاشلة» غير القادرة على إدارة أزماتها وحل صراعاتها سلمياً، وإن الحل هو فرض خرائط سياسية جديدة تسمح بقيام دول منسجمة داخلياً سواء كان عرقياً أو طائفياً أو دينياً، أي إعادة التقسيم للوطن العربي مجدداً، على أسس طائفية وعرقية ودينية.
إعادة جدولة وتسويق الماضي
هذه الرؤى الخطيرة باتت رائجة في الأدبيات السياسية الغربية الآن وهي إحدى محركات دعوة الاتحاد المتوسطي، لكن إضافة إلى الحقيقتين السابقتين هناك حقيقة ثالثة لا تقل أهمية، وهي أن النظام العربي بات رخواً لدرجة خطيرة تسمح باختراقه ولم يعد يملك من مصادر وموارد المقاومة والمنعة ما يكفي للحيلولة دون انفراطه، سواء كان الانفراط باتجاه فرض استقطاب إقليمي بين محوري الاعتدال والشر، أو كان على أساس تقسيمه وحشره في نظم إقليمية وأُطر إقليمية-عالمية جديدة على غرار دخول دولة عربية في الاتحاد من أجل المتوسط منفردة دون دول أخرى، ودخول دول أخرى في شراكة أخرى دون غيرها على نحو توقيع أربع دول خليجية على «اتفاقية اسطنبول» لعام 2004 مع حلف شمال الأطلسي (الكويت والإمارات وقطر والبحرين) دون الدول الأخرى أعضاء مجلس التعاون: المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان، ومثل مشاركة دول عربية دون غيرها في منظمة «الإيجاد» الأفريقية، وعضوية الاتحاد الأفريقي.
هذا النوع من العضوية العربية الممزقة والمتفرقة بين أنواع مختلفة من المنظمات والشراكات والمعاهدات يهدد، عاجلاً أم آجلاً، بتصفية النظام العربي، وهذا لم يحدث بالنسبة للدول الأوروبية التي شاركت في مشروع الاتحاد المتوسطي على سبيل المثال. فعلى عكس النظام العربي دخل الاتحاد الأوروبي إلى عضوية الاتحاد المتوسطي باعتباره «الاتحاد الأوروبي» وليس عبر مشاركة منفردة لكل دولة على حدة كما هو حال النظام العربي، الذي شاركت بعض دوله فقط وليس كلها، وشاركت بشكل منفرد وليس جماعياً في هذه التجربة. كما أن الاتحاد الأوروبي استطاع أن يعيد ترتيب كل أوراق وأهداف الاتحاد المتوسطي ابتداءً من الاسم إلى الأهداف وإطارات العمل. فبدلاً من الاسم الذي كان يريده الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وهو «الاتحاد من أجل المتوسط» تحول الاسم بضغط ناجح من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى «مسار برشلونة: الاتحاد المتوسطي»، أما الأهداف فلم تعد علاقة بين دول شمال المتوسط الأوروبية ودول المتوسط الجنوبية بل أضحت علاقة بين كل دول أوروبا التي تحمل عضوية الاتحاد الأوروبي ودول جنوب المتوسط، أي أن الاتحاد الأوروبي أصبح المتحكم في مسار التجربة وليس فرنسا كما كان يأمل ساركوزي، كما أن إطار برشلونة السابق أصبح الإطار الحاكم للمشروع الجديد وليس الأطر التي كان يسعى ساركوزي إلى فرضها.
البقاء في إطار برشلونة
هذا التحول فرضته ألمانيا ودول أوروبية أخرى أصرت على عدم تجاوز إطار برشلونة وأن يكون الاتحاد الجديد مكملاً له، بما يعني أن العلاقة باتت مجدداً بين الاتحاد الأوروبي من ناحية ودول جنوب المتوسط من ناحية أخرى وهي علاقة شديدة الاختلال، بما يعني وجود فرص أوروبية سانحة لفرض أهدافها وشروطها على الدول العربية المتوسطية، ولعل هذا ما جعل مسألة «تطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية» ومحاولات جمع الرئيس السوري بشار الأسد برئيس حكومة إسرائيل إيهود أولمرت من أولويات واهتمامات الرئيس ساركوزي. كما أن ما تضمنه الإعلان المشترك للاتحاد الجديد من بنود يؤكد في مجمله طغيان الرؤى الأوروبية والأولويات الأوروبية على أهداف هذا الاتحاد الجديد.
فقد شمل الإعلان المشترك مجموعة من النقاط المهمة أبرزها: أسلحة الدمار الشامل، والديمقراطية وحقوق الإنسان، وعملية السلام «الإسرائيلية-الفلسطينية»، والإرهاب، ثم عملية برشلونة، وفقاً للرؤى الأوروبية دون أولوية لقضايا التعاون الاقتصادي والاستثمار والتنمية والحل العادل للقضية الفلسطينية كما يريد ويأمل العرب. أما من ناحية التطبيق فإن الاتحاد الجديد الذي يشهد اختلالاً هائلاً في موازين القوة لن يجد حلاً له في مسألة الرئاستين الأوروبية والعربية للاتحاد «فرنسا ومصر» وسيبقي العرب بسبب عضويتهم المنفردة وتغييب النظام العربي والجامعة العربية مجرد متلقين وليس فاعلىن ضمن هذا الاتحاد، الأمر الذي يعمق من مخاطر تعرض النظام العربي لمزيد من عمليات التفكيك والانفراط.
كاتب من مصر