ما يحدث في لبنان

الظاهر والباطن في الخطاب السياسي اللبناني

null
خالد غزال
ليس غريبا في العمل السياسي العام ان تحمل خطابات القوى السياسية المتصارعة الوانا من التعبير لا يتطابق فيها الظاهر مع الباطن، وهي امور عادة ما ترتبط باحداث محددة واحتدام التناقضات. لكن الواقع اللبناني، ومنذ اندلاع الازمة العامة في البلاد بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تسجل فيه القوى السياسية ارقاما قياسية في التعبير الملتبس والمتناقض عن المواقف السياسية، بحيث يعطى «لكل مقام مقال»، وبحيث تتم المخاطبة في مكان بشكل مختلف عن مكان آخر وبلغة متفاوتة ايضا بين منطقة وجمهور. لكن الاشهر الاخيرة تؤشر الى خطاب سياسي يذهب بعيدا في «التكاذب» حول النيات والاستعدادات للتوافق والمصالحة وضرورةالعيش المشترك من دون اضطهاد فئة لاخرى.
في هذه الايام، وبعد الاحداث التي عرفتها الساحة اللبنانية واتخذت طابعا امنيا باحتلال العاصمة وما تبعها من احداث في عدد من المناطق، كله في اعقاب لغة من التخوين المتبادل بين اطراف الصراع، تسود المواطن اللبناني الكثير من علامات الدهشة والاستغراب حول الخطاب السياسي الهادئ الذي ساد فجأة بين اطراف القوى المتصارعة عقب تشكيل الحكومة، لكن المواطن يتساءل في الوقت نفسه عما اذا كان المظهر الخارجي السائد هدوءا مؤقتا ام مستمرا. يأتي التشكيك من الخبرة التي بات اللبناني يملكها في التفريق والتمييز بين الحقيقي والشكلي من الامور، ومن المعرفة بالتكاذب الذي تتقنه هذه القوى، ومن الادراك ان نزعة عامة من الكراهية ترقد تحت هذا المظهر الخارجي، وهي كراهية تعمل الجماعات اللبنانية، خصوصا منها الطوائف -الاحزاب على بنائها وهندستها بشكل يغطي كل المساحات النفسية والذاتية.
انعاش الكراهية الكامنة
في حقيقة المواقف الفعلية والتي تكمن في باطن الخطابات السائدة، فانه ليس هناك اكثر من المظاهر والميادين التي تتجلى بها الكراهية بين اللبنانيين، طوائف واحزاب وجماعات وافراد، فشحنها وبلورتها تتوفر لها عبر وسائل متعددة ومتوافرة لدى كل طرف. ليست اقامة اللبنانيين في الكراهية حديثة وابنة حوادث معينة، بل هي تضرب عميقا في الداخل اللبناني منذ عقود، لكنها اليوم تعرف مستوى من «التطور» والتصعيد تجاوز ما هو مألوف في الحياة اللبنانية. تنبني الكراهية على الاضطهاد الذي يطول مجموعات لبنانية على يد مجموعات اخرى، ويزداد عنف ردود الفعل لدى من يعتبر ان اخضاعه يعني اخضاع المجموعة الطائفية التي ينتمي اليها. في بلد كلبنان، لايوجد تفريق في الهوية بين الطائفة والانتماء الى الوطن، بل ان الهوية الطائفية تحتل الموقع الاول والاساس في الانتماء. فان تشعر طائفة بان طائفة اخرى قد «هزمتها» يساوي في نظرها الحاق المذلة والمهانة بها وبرموزها، وهو شعور مدمر وتترتب عليه آثار خطيرة في العلاقة الراهنة والمستقبلية. مهما يقال اليوم من كلام تجميلي حول العلاقات بين الطوائف، وهو كلام مبني على نوع من «التقية» يمارسه الجميع، فإن «الحروب الاهلية الصغيرة» التي عرفتها البلاد في الاشهر الاخيرة ما تزال تحفر عميقا في النفوس وتؤسس لمزيد من الابتعاد الداخلي.
وينتعش خطاب الكراهية بين اللبنانيين من خلال استحضار الرموز والمس بها والتشهير بماضيها. «يتفنن» اللبنانيون في تحقير رموزهم الدينية منها او السياسية، وينبشون احقادا وصراعات مضى عليها زمن طويل فاذا بنا امام مشهد متجدد للمجازر والقتل على الهوية والتنكيل بالجثث، و«تحديث» اخراجها في وسائل الاعلام بما يجعل راهنيتها محفزا لمزيد من التوتر واستعادة «المترسة» بين القوى المتصارعة، وبما يجدد الاحزان بين اهل الضحايا، وهو تجديد يهدف الى الاستعداد مجددا للثأر والانتقام.
الاعلام والشحن الطائفي
يوفر الاعلام بوسائله المتنوعة، المرئي منه والمقروء، وسائل وتقنيات حديثة تساعد في الشحن على الحقد والكراهية عبر ما تقدمه من برامج تستحضر كل ما يثير الغرائز والنعرات، ويؤجج النفوس المهتاجة اصلا ضد بعضها البعض، وعلى قاعدة «من ليس معنا فهو ضدنا». تقدم البرامج التوثيقية والاخبارية والمتصلة بلقاءات عاملين في السياسة كل ما يثير من التوتير، من خلال تزوير الحقائق وتقديم الوقائع استنادا الى اكاذيب باتت من «الوجبات» الدائمة لبعض وسائل الاعلام الحزبية والطائفية، بحيث يصعب التمييز بين الحقيقي وغير الحقيقي فيما تطرحه هذه الوسيلة او تلك. ان ما عرفه البلد على امتداد اشهر سبقت من خطابات قائمة على التخوين والتكفير والاتهامات المتبادلة مقرونة بسقط المتاع من الكلام البذيء والمقذع بين القوى المتصارعة، لهو دليل على القدرة الفائقة في «تعييش» اللبنانيين في اجواء الرعب والخوف من تحول هذا الخطاب الكلامي الى رصاص ومدافع، وهو امر لم يطل الزمن طويلا عليه حتى انقلب الكلام عنفا مسلحا.
وراء المظهر المخادع السائد حاليا من معسول الكلام، يتحضر البلد لموجة من العداوات يجري الاستعداد منذ اليوم لتجهيزها واخراجها بشكل يجعلها ذات فاعلية. انه موسم الانتخابات النيابية القادم، موسم يشكل ارضا خصبة لكل انواع التحريض ونبش المستور وغير المستور، واختراع اساليب مناسبة للتشهير بالخصم و«جندلته» بما يقضى عليه بالضربة القاضية. من المعروف تاريخيا ان الانتخابات النيابية تشكل مصدر قلق واضطراب في الحياة اللبنانية لما تسببه من قلاقل وتستثيره من خلافات كثيرا ما يكون منها قد جرى نسيانه. انتخابات العام القادم ستشهد «افلاما مرعبة» من العنف الكلامي والمادي ونبشا لما قد لا يمكن تخيله منذ الان من عناصر التحريض العائلي والعشائري والطائفي والمذهبي وغيرها من العوامل المساعدة والمؤججة للكراهية. بدأت طلائع هذه المعركة في التبلور، وبدا شحذ الاسلحة بمختلف انواعها، ويجري تحضير اللبناني لمنازلات ستطيح بقلة قليلة جدا من التعايش الذي لا يزال قائما.
ان بلدا تتحضر قواه لخوض هذه «المعارك» الكلامية ظاهرا، يصعب ان يبقى اسير الكلام. والكلمة مقدمة للرصاصة، والاشهر المقبلة ستكون حبلى بالاحقاد والكراهيات والتقاذف بالاتهامات المتنوعة. ان بلدا يحبل بمثل هذه «الثقافة» سيلد بالتأكيد، وسيكون المولود مجددا موجات من العنف والقهر والمآسي التي ستطال الجميع من دون استثناء. هذا هو في حقيقة الامر باطن الخطاب السياسي الراهن، لكن وعلى رغم كل ذلك يظل اللبنانيون يستسيغون ذلك «التكاذب المشترك» بينهم والذي كانت له نكهة سلمية وموضعية فيما مضى، فيما تبدو هذه اللغة اليوم ملغومة بالمتفجرات التي تصيب شظاياها كل موضع تصل اليه.

كاتب من لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى