عن الغربة والشك بالوطن
حسين جمّو
أفرزت المفاهيم الجديدة التي رافقت التطور الهائل في معظم نواحي الحياة المعاصرة أسئلة كثيرة وشكوكاً كبيرة حول مفاهيم تدور حولها الكثير من الصراعات الدامية.
الشك، ليس فقط منهجاً لطرح الأسئلة والتوقف عند ذلك، فصاحب الشك هنا ليس محاوراً يحرض شخصاً على الحديث بما خفي من أمور من خلال التشكيك في مفاهيمه، بل يقودنا الشك في حالات معينة إلى الانقلاب على ما تسمى “ثوابت” غير قابلة للنقاش، وهذا الشك “الخلاق” هو ما تحدث عنه أنطوني غيدنز في كتابه “بعيداً عن اليمين واليسار … مستقبل السياسات الراديكالية”، بحيث أصبح كل شيء موضع تساؤل، وفي معرض مناقشته للتقاليد مثلاً، يؤكد غيدنز أنه أصبح لزاماً عليها أن تفسر ذاتها، لأن لم يعد هناك ما يسمى حقيقة غير قابلة للنقاش. ما يتميز به الشك عن النقد، هو أن الأول تساؤل لم يجد بعد إجابة محددة فهي رحلة بحث في صيرورة، أما الثاني فهو سؤال يخفي إجابة محددة في طياته.
إلى أي مدى يمكن أن يطال الشك مفهوم “الوطن”، الأمة، الأرض، الأجداد، الأصول الاجتماعية؟
فادي شاب فلسطيني في منتصف العشرينات من عمره، ويعمل في الإمارات العربية المتحدة حيث ولد فيها. يشعر فادي بالحرج من التصريح برأيه حول وطنه للمقربين منه، فهو ولد في الإمارات وعاش طفولته وشبابه كله فيها، وكما يقول: “ليست لي ذاكرة عن فلسطين، كل ما أعرفه يسرده لي والداي، إن لهما ذاكرة ممتلئة بالوطن والأرض، لكن ما لا يدركانه هو أني لا أملك هذه الذاكرة، أزور بلدي كل عدة أعوام لمدة شهر، وسيستغرب من يسمعني أقول إني أشعر بالغربة فيها”.
هذا المثال يجعل الشك يرسم نفسه أمام أعيننا وذواتنا، أين أكون غريباً؟ في بلدي الذي هجر منه أجدادي ؟ أم في البلد الذي ولدت فيه وكونت فيها ذاكرتي؟ هذه الأسئلة ربما تنقلنا عنوة إلى أمين معلوف في “الهويات القاتلة”، وفي حالة فادي، لا بديل عن التفكير في الهوية المزدوجة أو التوفيقية رغم أن ما طرحه معلوف قصد به هويات مغايرة تماما عن بعضها البعض، مثل الفرنسية والعربية.
حالياً يشك فادي بهويته، ويلوم ذويه على امتلاكهم تعريفاً واحداً للغربة، هو غربتهم، ولم يسألوا أنفسهم لماذا غربتهم تعني غربة أبنائهم أيضاً؟ حاول فادي تجربة مفهوم الآباء الذين عاصروا حملات التهجير التي قامت بها العصابات الصهيونية “الهاغانا”، فسافر إلى الضفة الغربية منذ ثلاثة أعوام ليبحث عن عمل ويستقر في “وطنه”، فتفاجأ أن لا عمل له سوى في إسرائيل وبراتب يزيد عن الذي يتقاضاه في الإمارات في مجال الهندسة المعلوماتية. لكن عليه أن يقطع المعابر يومياً تحت خطر المشكلات التي يخلقها جنود الاحتلال الإسرائيلي، وهناك ما هو أكثر من ذلك، فادي يخاف من الاستشهاديين، فماذا لو كان في حافلة تتجه إلى مكان عمله في إسرائيل وحدثت عملية فدائية استهدفت العائلة؟ لكن فادي يؤكد انه ليس ضد الاستشهاديين، لكنه يخاف من الصدفة التي قد تجمعه بهم وتجعل منه ضحية. وأخيراً، ” لا أستطيع العمل لدى الإسرائيليين، سأكون عديم الأخلاق لو فعلت ذلك”. بالطبع، مثل هذا الطرح لا يمس الحب والعاطفة تجاه البلد الأم، كل ما يتغير أن الانتقال للمكان لا يجلب السعادة، رغم أن ذات المكان ربما تكون الذاكرة الشعرية والأدبية الوحيدة لخيال من غادرها واغترب عنها.
هذا الشاب الفلسطيني هو نموذج ربما يلقي الضوء على بعض ما يشعر به الجيل الحالي من الشباب الفلسطيني المهجّر من وطنه حول الهوية والوطن والغربة والاغتراب، هناك أسئلة تفرض نفسها ربما ستحتاج إلى سنوات طويلة لتتبلور إجابات محددة تجاهها، والأمر لا يخص فقط الشعب الفلسطيني، بل الكثير من الشعوب التي ذاقت مرارة التهجير، كالأرمن والآشوريين والأكراد، إضافة إلى المسيحيين العرب.
إلى أين سيقودنا الشك؟
الشك بوابة تغير القيم، لكن أي هذه القيم يجب أن نحميها من سهام الشك؟ هل الوطن قابل للشك به؟ يستحضرنا هنا بيت من الشعر يقول:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام
لو وضعنا هذا المفهوم للوطن والأهل الذي يطرحه هذا البيت تحت الشك، سنسأل، هل النظام الذي اختصر الوطن في ذاته، وظل يضطهد شعبه باسم الوطن سيجعل هذا الشعب يخضع النظام ـ الوطن لمقصلة الشك؟ ربما الحل الوسط هو تعليق حب الوطن حتى إشعار انفصال النظام عنه، أي سقوطه.