صبحي حديديصفحات أخرى

تنورة ونستون تشرشل

null
صبحي حديدي
إذا كانت إسرائيل لن تفرغ أبداً من إغداق نعوت التبجيل علي وزير الخارجية البريطاني الأسبق، اللورد آرثر جيمس بلفور، عرفاناً بالوعد الشهير الذي قطعه للبارون روتشيلد، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، حول إقامة دولة قومية لليهود في فلسطين؛ فإنّ الحال هذه تُلحق الغبن بشخصية بريطانية أخري كبري: السير ونستون تشرشل… دون سواه. ففي أحدث أعماله، وهو مجلد ضخم بعنوان تشرشل واليهود ، يساجل المؤرّخ البريطاني مارتن جلبرت بأنه إذا كان اللورد بلفور هو قاطع الوعد، فإنّ السير ونستون هو أوّل مَن شرع في الوفاء به، بل هو أبرز الساهرين علي حسن تنفيذه.
ويبرهن جلبرت (صاحب أضخم سيرة لحياة تشرشل: ثمانية أجزاء!) أنّ تعاطف الأخير مع الحركة الصهيونية، وليس مع الدولة اليهودية وحدها، ظلّ قوياً راسخاً غير مشروط، رغم كلّ الأعاصير التي هبّت علي علاقات التاج البريطاني مع المنظمات الصهيونية، سيّما الإرهابية بينها، وذلك منذ سنّ اليفاعة حين صدمته موجات العداء للسامية قضية الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس تحديداً، وحتي اجتماعه الأخير مع دافيد بنغوريون سنة 1960. وينقل جلبرت، علي لسان أحد أخلص أصدقاء تشرشل، أنّ أحد أشهر رؤساء وزارات بريطانيا في العصور الحديثة كان يعاني من نقطة ضعف واحدة، هي انحيازه الشديد لليهود .
زيارته الأولي إلي فلسطين، سنة 1922، صحبة المفوّض السامي هربرت صمويل وتوماس إدوارد لورنس (أو لورنس العرب ، في اللقب الشائع) أنعشت آمال اليهود، بقدر ما خيّبت آمال العرب. وكيف لا وقد اعتبر أنّ معارضة العرب للهجرات اليهودية إلي فلسطين تنمّ عن موقف عنصري، أوّلاً؛ كما تتناقض، ثانياً، مع حقيقة أنّ هؤلاء المهاجرين جلبوا إلي فلسطين الرخاء والرفاه والنموّ الإقتصادي. وفي السنة ذاتها كان الكتاب الأبيض الذي وضعه تشرشل قد أقرّ معدلاً للهجرة غير مسبوق، سمح بقدوم واستيطان قرابة 300 ألف يهودي في فلسطين، كما ثبّت مبدأ الهجرة اليهودية بوصفها مسألة حقّ تاريخي وليس مجرّد مثوبة علي معاناة اليهود.
والحال أنّ انحياز تشرشل إلي الصهيونية لا يبعث علي دهشة خاصة إلا حين يبدو الأخير وكأنه غافل تماماً، أو متغافل عمداً، عن الأخطار التي كانت تصيب المصالح البريطانية في المنطقة، جرّاء ممارسات المنظمات الصهيونية ذاتها. وكانت هذه حال صداقته الحميمة مع حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية وأوّل رؤساء الدولة العبرية، بحيث لاح أنّ لا طاريء علي الإطلاق، أياً كانت عواقبه السياسية أو الأمنية، يمكن أن يؤذي تلك الصداقة أو حتي يضعفها. وذات يوم، في خريف 1944، كان وايزمن مدعواً للعشاء علي مائدة تشرشل، في المقرّ الريفي لرئيس الوزراء في شيكرز ، حين أفضي له الأخير بمعلومة خاصة عن اللورد ألبرت موين، المفوّض الكولونيالي البريطاني في القاهرة، وكيف أنّ مواقفه تبدّلت وصار الآن في صفّ تشرشل لجهة التعاطف مع الصهيونية، ومن الخير أن يستقلّ وايزمن أوّل طائرة متوجهة إلي القاهرة، للقاء موين والتنسيق معه. لكنّ اللورد موين اغتيل، علي يد اثنين من أفراد عصابة شتيرن، حتي قبل أن يقلّب وايزمان الفكرة في رأسه، ومع ذلك فقد رفض تشرشل اقتراحاً بتعليق الهجرة اليهودية إلي فلسطين، لأنها في نظره لن تخدم إلا قوي التطرّف!
ومن الجدير بالتذكار أنّ تشرشل، في ذروة تعاطفه مع اليهود، كان يبشّر باستخدام أسلحة الدمار الشامل ضدّ أبناء العراق، عرباً (تحالف العشائر) وكرداً (حركة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي في لواء السليمانية)، علي حدّ سواء. كذلك كان حريصاً، بصفة خاصة، علي استخدام الأسلحة الكيماوية ضدّ العرب العصاة، من باب التجريب ، معتبراً أنّ الإعتراضات علي هذه الأسلحة غير عقلانية ، مضيفاً تلك الجملة الأشهر: أنا أؤيد بقوّة استخدام الغاز السامّ ضدّ القبائل غير المتمدنة، وذلك لكي يدبّ الذعر في نفوسهم .
وباتت الآن معروفة ومكشوفة تماماً تلك المذكّرة السرّية البشعة، التي تضمنت فقرات مسهبة في تبرير استخدام غاز الخردل، والتهكم علي أصحاب المواعظ الأخلاقية المناهضة لتلك الأسلحة، ومقارنة الرأي فيها بتبدّل موضة تنورة المرأة: إنه لمن السخف اعتماد المبدأ الاخلاقي في هذه الموضوع حين نعرف أنّ الكلّ استخدم هذه الأسلحة في الحرب الأخيرة دون كلمة شكوي من وعّاظ الكنيسة. ومن جانب آخر، كان قصف المدن المفتوحة محرّماً في الحرب الأخيرة، ولكنّ الكلّ يمارسه اليوم وكأنه أمر مألوف. إنها ببساطة مسألة موضة تتبدّل بين القصير والطويل في تنّورة المرأة !
وهكذا، إذْ يلفت كتاب جلبرت الجديد أنظار صهاينة العالم إلي ضرورة إحقاق حقّ تشرشل بوصفه أحد بناة دولة إسرائيل، ممّن كانت نياط قلوبهم تتقطّع حزناً علي عذابات اليهودي في غمرة تعطّشها إلي سفك الدم غير المتمدّن، فإنّ الوقائع العديدة التي تعيد رسم صورة ونستون تشرشل الصهيوني، ينبغي لها أن تعيد تنبيهنا ـ حتي دون أن يقصد جلبرت ـ إلي ما عرفناه في الماضي، ونعرفه اليوم أيضاً: أنّ البرابرة، علي نقيض ممّا يجري في قصيدة قسطنطين كافافي، أتو إلينا من الغرب، بالفعل، مراراً وتكراراً!

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى