صفحات الناس

من يخبر قصص الفقراء في سورية؟

nullملايين مهمش، ولا اعلام يهتم او يبالي. ثلث سكان سورية يعانون من الفقر، لا تظهر قصصهم سوى خلال “رمضان” او لتروي خيال كتاب المسلسلات التليفزيونية.
رهادة عبدوش- دمشق
ربما استطاع الإعلام السوري الرسمي و الخاص الولوج الى العديد من مناحي الحياة في سورية، فرصد بحسب نظرته تفاصيلا يعيشها الكثير من السوريين.
لكنه في جوانب متعددة تجاهل رصد شريحة  من الناس الذين تشل جزءا كبيرا من لوحة الشارع السوري وصوت حاراته وطرقاته.
إنهم المهمشين اقتصاديا، طبقة تصنع عملها بيديها وتعتاش قوت يومها  بكدح اليوم كله.
أنهم يعيشون بيننا في كل مكان، يدخلون تفاصيل حاراتنا وشوارعنا لا نستغني عنهم.
لكن إعلامنا لا يراهم إلا عندما يريد استكمال صورة جميلة أو حكاية رمضانية أو أحيانا دون قصد في تحقيقات بعيدة عنهم.
من منا لا يلفت نظره البويجي بصندوقه الحديدي والخشبي المزخرف وبصوته الملعلع في أمكنة كثيرة من سورية؟
تارة نراه عند الجامعة وتارة أخرى بالقرب من الحدائق.
و أحيانا كثيرة نراه في زوايا الطرقات وعلى الأرصفة تحت حر الشمس أو لسعة البرد.
وعلى مقربة منه نرى بائع العرق سوس في شارع الثورة ، في الحميدية ، وعند الجامعات ليطفئ لوعة الشمس الحارقة بعصيره التمر هندي أو العرق سوس وهو يبطن طاقيته بمنشفة تسانده لينتهي النهار بسلام.
وان أردنا التفاصيل لنتحدث عن جميع هؤلاء فلن نصل إليهم كلهم لأن ذلك النوع من العمل قد بات الأكثر تطرقا إليه في أيامنا هذه  كالعتال و بائع الشاي والقهوة في الحدائق وعلى أرصفة الطرقات و ماسح السيارات وشاطف الأدراج، بائع اليانصيب والبسطات، وما إليهم من معتاشين على باب الله، هؤلاء الذين يعملون لينالوا قوت يومهم ضمن مخاطر لا يقيهم أحد منها.
فهم لا يتبعون لأية جهة وليسوا مسؤولين لجهة ما بل على الأغلب ملاحقين من الشرطة بالقانون كونهم يشغلون الرصيف.
هؤلاء ببساطة هم المهمشين اقتصاديا وببساطة أيضا مهمشين في كل جوانب الحياة حتى في وسائل الإعلام.
فبنظرة الى الاعلام السوري المحلي، إن كان في الصحف المحلية كجريدتي  “الثورة” و”تشرين” فلن يسعف البحث للوصول الى أي ذكر للمهمشين اقتصاديا كمواطنين لهم حقوق وواجبات.
بل يذكرون أكثر ما يمكن في أشهر رمضان، حيث تتغنى الصحف المحلية بطربوش بائع عرق السوس والتمر هندي وبإبريقه الطويل المذهب وبصوته كأنه من عالم السينما والحكايات.
فيرسمونه ضاحكا مبتهجا كل همه إرواء العطشى وتجميل مدينته.
كما ويتغنون بصندوق البويجي.
فهو من سمات مدينة دمشق ولا يمكن تصور العاصمة دونه…
فلا نجد تحقيقا جديا يبحث في مشاكل هؤلاء وطريقة حياتهم ومتطلباتهم.
الصحف الأخرى ليست أفضل حالا بكثير رغم أنها تقترب في بعض الأحيان الى جوانب الحياة الاجتماعية لأولئك المهمشين، ومنها جريدة “النور”، وهي تصدر عن الحزب الشيوعي، وقد استطاعت في أحيان قليلة الالتفات إليهم دون التخطيط لذلك على مدة محددة وبل بشكل فردي.
أما الصحف الخاصة كـ”الوطن” و”بلدنا”، فلم تصلا حتى الى ما وصل إليه الإعلام الرسمي لأنها تتجه اتجاها بعيدا عن العمق الاجتماعي والاقتصادي في تحقيقاتها ومواضيعها  وهذا يتضح من المتابعات ومن الرصد الالكتروني منذ صدورهما حتى الآن.
وإذا اتجهنا نحو المجلات السورية كمجلة “أبيض وأسود” و”مجلة جهينة” و”الأزمنة” و”الاقتصادي” وغيرهم فإننا نلمح وبقوة في بعض الأحيان تحقيقات تحاكي أولئك المهمشين إما كفقراء أو محرومين من الأمان الاجتماعي والنفسي والاقتصادي.
تشمل هذه التحقيقات مواضيع كالعمل العشوائي والفقراء والاحتياجات التي تعيشها الأرياف المنسية من الحكومة واهتماماتها.
كل ذلك يعود الى سياسة تلك المجلات في محاولة الوصول الى شيء مختلف عما يرصده الاعلام الرسمي، وليس فقط من منطلق الاضاءة الفعلية على وضع هؤلاء.
وفي الإعلام الالكتروني كـ”الثرى” و”مرصد نساء سورية” و موقع “الجمل”…  تبدو بوضوح القفزة النوعية التي فرقتهم عن غيرهم من باقي وسائل الإعلام، ربما فيما يتعلق بالمساحة المعطاة لهم (كإعلام الكتروني) أو للجدية في التعاطي في قضايا الشأن العام والهم المجتمعي الذي يعيشه أغلب سكان سورية.
لكن التطرق الأغلب يلمس العنف الأسري من خلال الفقر والبطالة.
المسلسلات وإيصال المعاناة
أما إذا اتجهنا نحو التلفزيون كـ”الفضائية السورية والأرضية”، فهي كسابقيها من الإعلام الرسمي تبتعد برامجها عن البرامج التلفزيونية المتعلقة بحياتية أفراد المجتمع ورسم صورة أبنائه من الداخل بعيدا عن الزخرفات والشعارات.
إلا إذا اعتبرنا المسلسلات التلفزيونية جزءا من هذه المحطات.
فمن الواضح والجلي لكل متابع للمسلسلات السورية أنها استطاعت وفي السنوات الأخيرة رسم صور لأشخاص هم بالفعل مهمشين اقتصاديا واجتماعيا.
وإذا ذكرنا على  سبيل المثال لا الحصر مسلسل “غزلان في غابة الذئاب” والذي عرض منذ حوالي السنتين على “التلفزيون السوري”، فهو وصل الى رسم صورة تفصيلية لواقع يعيشه أغلب الفقراء في بيوتهم العشوائية وحياتهم التي لا يشعر بها أحد، حتى أنهم ابتعدوا عن الحلم الذي يحلمه الأشخاص العاديين ليرسموا أحلاما مختلفة عن أحلام شركائهم بالمواطنة.
توصل المسلسل والذي كتبه (فؤاد حميره) الى تفصيلات لم يكن يدركها حتى أقرب الناس إليها فأبدع في وصف معاناة أبكت من تابعها واستنكر وجودها البعيدين عن عالم يعتقدون أنه مجرد صور.
وهكذا كانت أكثر المسلسلات السورية الحديثة والتي برز فيها كتاب مبدعون (كدلع الرحبي) و(ريم حنا) خير من أوصل تلك الشريحة الى الضوء فقط ليقولوا يوجد معنا آخرين وهم بيننا ومثلنا مواطنين سوريين.
هذه حال الإعلام السوري والذي تراه السيدة “هالة الأتاسي” خبيرة  إعلامية في التلفزيون السوري،  بأنه يشكل جزيرة معزولة عن محيطها.
والسبب أنه بالرغم من حيوية دوره لا يمكنه العمل منفردا.
فلابد من وجود خطط حكومية متكاملة يكون الإعلام جزءاً منها، خطط واضحة الرؤية والأهداف، تصمم لها الاستراتيجيات اللازمة، ومع جميع المواد التي ينتجها لتعمل وفق آلية تحقق توحيد وانسجام الخطاب الإعلامي مع هذه الخطط.
بالإضافة الى وجوب إعادة النظر بالخطاب الإعلامي بحيث يتمتع بالقدرة على الوصول الى الناس جميعا وبأقصى درجات الجودة لتكون المادة البرامجية هي المعيار الأساسي، لأن الرداءة تسيء الى كل القيم والمعايير.
كل ذلك بالإضافة الى التفاعلية التي تتيح للناس التواصل والسؤال والتعبير عن الرأي واكتساب المعرفة الحقوقية والقانونية ، مع تقديم الحقائق المدعمة بالأرقام بالإضافة الى الحديث بصراحة دون مواربة أو مداهنة عن هذه الظاهرة أو تلك مع تبيان الظروف وحجم الظاهرة وبيان تأثيراتها السلبية  والوقائع على المجتمع.
ثم لابد من العمل مع كتاب وصانعي الدراما التلفزيونية والتحفيز والتوعية لهؤلاء عن طريق ورشات العمل والدورات واللقاءات كي يستطيعوا تلمس الواقع ومعرفة مشاكله عن قرب كي تقترب أعمالهم من الناس فترصد همومهم وتصور حياتهم الحقيقية كما هي لا كما يتخيلونها.
يشكل المهمشون  اقتصاديا ثلث سكان سورية العشرين مليون، أي يتجاوز عددهم الخمسة ملايين،( حسب ما جاء في تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عن الفقراء في سورية.) وهم بالتأكيد أولئك المليون الذين يقعون تحت خط الفقر ولا يلبون احتياجاتهم اليومية من مأكل وملبس.
هؤلاء الملايين تغييب تفاصيل حياتهم عن الإعلام السوري بما يقارب التسعين بالمائة منه بأحسن الأحوال.
هذا الخلل الواضح بالسياسة الإعلامية نتيجة لما تحدثت عنه الإعلامية هالة الأتاسي وهو غياب الخطط والاستراتيجيات في الاعلام المحلي لابتعاده أولا عن التدريب والتمكين للإعلاميين بمختلف أماكنهم.
ومن جهة أخرى يساهم في تهميشهم إعلاميا كي لا تظهر الصورة السيئة الى العلن بالرغم من أن الإحصائيات والدراسات ساهمت بشكل ما  في التعريف بهؤلاء الذين يقطنون العشوائيات والأرياف النائية والمنسية ويشغلون الأرصفة والطرقات، ليبحثوا عن لقمة العيش بطرق يصنعوها بأنفسهم.
يكفي الإبريق والصندوق وكراسي صغيرة يجلسون عليها لبيع ما يبسطون به وأجسادهم التي يعتلون عليها ما فوق طاقتهم ليسدوا حاجاتهم الأساسية.
*رهادة عبدوش صحفية وناشطة في قضايا المرأة وعضوة في فريق عمل نساء سورية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى